«سوق الطيب» اللبناني يسوِّق خيرات الأرض وخبرات الجدات

هدايا اليوم.. زعتر بلدي وزيتون وماء زهر بلدي

«سوق الطيب» يدعم صغار المزارعين في كل المناطق («الشرق الاوسط»)
TT

غالباً ما يتلقى اللبنانيون في المناسبات هدايا «نوعية» موضبة في سطل حديدي أو جرة فخارية أو ما إلى ذلك. أما مكونات هذه الهدايا فهي تتراوح بين اللبنة المكبوسة والزعتر البلدي وزيت الزيتون الحار وقارورة خلاصة أزهار الخزامى وأخرى لماء الزهر التي يشبه محتواها ما يشترى من السوق. وأحيانا تكون الهدية بضع برتقالات أو قمحاً وعدساً وشعيراً. تلك الهدايا المميزة تحمل عنواناً واحداً هو «سوق» الطيب الذي انطلق ليجمع المزارعين ومنتجي المأكولات الصحية اسبوعيا ليعرضوا مواد غذائية طازجة من خضار وفواكه طبيعية، عسل وزيت زيتون ومربيات بيتية، وغيرها من المأكولات التقليدية التي تصل جميعها من المزارع أو المنتج إلى المستهلك مباشرة من دون وسيط، وذلك في ركن من أركان «صيفي فيليدج»، وسط بيروت التجاري ليعرض منتجاته كل عطلة أسبوع، وليجول مع ما تيسر من مناسبات في مختلف المناطق اللبنانية. وآخر لقاء له مع جمهوره كان في منطقة زقاق البلاط، أحد أحياء بيروت العريقة، ليقدم للراغبين طبخة المفتقة البيروتية التقليدية «بالأرز والطينة من أشغالنا، بالاضافة الى أطايب العشاء اللبناني» كما تقول الدعوة.

صاحب مشروع «سوق الطيب» هو كمال مزوّق، لبناني قلباً وقالباً، كما يقول المثل العامي اللبناني عن كل من يعتزّ بوطنه، وابن أرض أباً عن جد وجد الجد، لم يجد خير رابطة بينه وبين الأرض غير كل ما تنتجه هذه الأرض من الطيبات والمشهيات، ولذلك آل على نفسه أن يؤسس «سوق الطيب» في عام 2004 ليذكر اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، بما صنعته أيادي أمهاتهم وجداتهم، وما انتجته حقولهم وحواكيرهم (الأرض المحيطة بالمنزل) وما تفتق عنه ذكاء الأقدمين منهم والأقربين.

الفكرة من السوق هي مساعدة صغار المنتجين في جميع المناطق اللبنانية على عرض منتجاتهم الجيدة في المدينة، حيث يوجد الطلب والقدرة الشرائية، تحديداً لأن الانتاج الصالح يضمن صحة الأرض والطبيعة ومواردها.

ويقول مزوّق لـ«الشرق الأوسط»: «كان طموحي من إنشاء هذه السوق امرين اثنين، أولهما دعم صغار المزارعين في كل المناطق من دون تمييز، وثانيهما المساعدة في تسويق المنتجات (البلدية)، التي تقوم على الزراعة العضوية بصورة خاصة والزراعة السليمة بصورة عامة، وإنقاذ المزارع من جشع الوسيط الذي يأكل بيضة الانتاج وقشرته، في حين أن سوق الطيب يعزز الاتصال المباشر بين المزارع والمستهلك بما يضمن مدخولا كافيا للأول ونوعية جيدة للثاني». ويضيف مزوّق: «وكان همي من كل ذلك هو إحياء التراث اللبناني، وهذا ما ندرسه لتلامذة المدارس وما نقيم له من مهرجانات في كل المناطق من مهرجانات للكبة والتبولة والهريسة (طعام من اللحم والقمح) والفاصولياء الحمانية (نسبة الى بلدة حمانا)، ومهرجان للكرز، وآخر للتفاح، وغيرها من المهرجانات التي تطاول كل المناطق وتعرف اللبناني والزائر الى خبز الصاج والتنور والمنقوشة بالزعتر والقريشة (المصنوعة من القشدة) والعسل ودبس العنب والخروب».

ولطالما يشعر مؤسس السوق بالاغتباط عندما يرى صغار المزارعين يتهافتون كل يوم سبت من كل أسبوع على سوق الطيب في محلة الصيفي في قلب بيروت، وبعد ظهر كل يوم أربعاء من كل أسبوع إلى مول الـABC في الاشرفية حاملين إنتاجهم النضر والطازج إلى رواد سوق الطيب الذين يقبلون بحماسة وحنين على ما رعاه المزارعون الصغار من فواكه وخضار ونباتات وحبوب.

وليس غريبا أن ينجح «سوق الطيب» في إقامة العلاقة الحميمة بين المزارع والمستهلك، وبين اللبناني وأرضه، وبين ربة البيت ومطبخ والدتها وجدتها، لأن مؤسس السوق عمل رئيس طهاة وأدرك ميزات المأكولات اللبنانية التقليديةـ ولأنه نجح مقدّما لاحد البرامج التلفزيونية.

ويتذكر مزوّق الحلوى (حلوى المادلين)، التي ذهبت بعقل الروائي الفرنسي الشهير مارسيل بروست بعيدا في أحلام اليقظة. وهو بالتالي لا يسخر، بل يفخر بما يردده المغتربون اللبنانيون من أنهم يحنون دوما الى التبولة اللبنانية والكبة النية والحمص بالطحينة ودبس الخروب. ويكشف سوق الاطايب عن وجود برنامج مدرسي موجه للأطفال صمم لزيادة وعيهم بأهمية الطعام الصحي وعادات الطهو السليمة وإقبالهم على تناول هذا الطعام، إضافة الى برنامج دولي لتبادل خبرات المزارعين عبر بعثات بين الدول، فضلا عن مشروع يطلق عليه اسم «بيت لبنان» ودليل طهو للأطفال بالعربية ودليل آخر عن كل المأكولات اللبنانية ومراكز انطلاقتها.

ويؤكد مزوّق أنه لا يعتمد على المنظمات الدولية، بل إنه جاهز للتعاون معها «إن كانت أهدافها هي الأهداف نفسها التي نسعى إليها». ويضيف: «نحن لا نسوّق لأي سياسة، لأن سياستنا تقوم على تعزيز علاقة المزارع بالأرض وتعزيز علاقة اللبناني بما اعتاد على تناوله من خيرات الأرض وخبرات الجدات والأمهات. فالطعام ليس له زعيم ولا حزب ولا طائفة ولا منطقة». ويذكر بالمهرجان الذي أقامه في 13 أبريل (نيسان) 2005 ذكرى اندلاع الحرب اللبنانية الداخلية تحت عنوان «مزارعون كلنا للوطن» وكانت الغاية منه التأكيد على أن اللقمة تجمع ولا تفرّق.

وإذا كان مزوّق ركز على الانتاج العضوي والبلدي، فإنه لم يسقط العمل البيئي من حسابه. فحمل على أكياس النايلون موزّعا على ربات البيوت أكياسا قابلة لإعادة التدوير، وحض المواطنين على رفض كل ما يستعملونه من أدوات ووسائل غير قبلة لاعادة التدوير «لان البيت الجميل هو من البيئة الجميلة» على حد قوله.

ويطمح الناشط الغذائي والبيئي إلى إنشاء سوق طيبة دائمة وليس أسبوعيا، ولها فروع دائمة في المناطق وليست عابرة، وهو يأمل في أن يدق أبواب الدولة لكي تشجّعه على تحقيق هذا الحلم من خلال توفير المساحة اللازمة لتعزيز الإنتاج والتراث الوطنيين.