لميس إبراهيم.. من الطب إلى المطبخ

حنينها إلى بلادها جعل منها مؤلفة كتاب طبخ للمأكولات العراقية

لميس إبراهيم .. أصبحت مدرسة ومحاضرة في الجامعات البريطانية (تصوير: حاتم عويضة)
TT

بعيدا عن أجواء جلسات اللجنة البريطانية للتحقيق في حرب العراق التي تتصدر عناوين الصحف في بريطانيا، استطاعت طبيبة عراقية دفعها حبها لبلادها إلى شد انتباه الصحافة البريطانية إلى ناحية أخرى للعراق عن طريق نشر ثقافة الطعام في تلك البلاد العريقة التي غلبت أخبارها المأساوية على أخبارها الثقافية والفنية والاجتماعية.

د. لميس إبراهيم سيدة عراقية تركت بلادها منذ أكثر من 35 عاما، وانتقلت للعيش في لندن وأنهت تعليمها في جامعة بلندن وحصلت على شهادة الدكتوراه في مجال الطب وعلم المناعة وعملت في مستشفيات في لندن وأصبحت مدرسة ومحاضرة في الجامعات البريطانية، وعلى الرغم من مرور الزمن وعيشها معظم حياتها في بريطانيا، فإن هاجس العودة إلى بلادها لم يتركها، ففي عام 2004 وبعد غزو العراق بفترة وجيزة قررت إبراهيم العودة إلى بلادها لتفقد أحبابها وعائلتها، فقررت الذهاب إلى بغداد عندما فتحت الحدود برفقة ابنتها الكبرى، عن طريق عمان، فاتصلت بزوجها الذي كان يشارك في ندوة في البحرين وأبلغته بأنها تعتزم التوجه إلى بغداد بغض النظر عن الخطر الذي سيكون رفيقها في تلك الرحلة التي كانت بمثابة رحلة البحث عن الذات والجذور، وعودة لا تشبه سواها؛ إنها عودة معجونة بالحنين والذكريات تنبض من خلال قلب مكسور مزقته أخبار الحرب ومشاهد الركام والدمار.

في مقابلة أجرتها «الشرق الأوسط» مع د. لميس إبراهيم تروي لنا قصة كتاب الطبخ الذي كان باكورة أعمالها في مجال الطهي تحت عنوان «ذا إيراكي كوك بوك»، الذي أصدرته في بريطانيا في أبريل (نيسان) عام 2009، وتأخذنا بحكايتها إلى مقدمة الموضوع وبالتحديد إلى لحظة وصولها إلى بغداد برفقة زوجها وابنتها، وعندها بدأ صوت إبراهيم يتقطع، تسمع فيه الغصة والألم والحزن والحنين، وتتوقف للحظة بعد أن تغلبت دموعها عليها وتبتسم بعدها وتقول إنها أصيبت بصدمة حقيقية عندما شاهدت العراق لا يشبه العراق الذي تركته منذ زمن، فكانت الأبنية مدمرة والممتلكات محروقة، الفوضى تعم الطرقات، الجنود منتشرون في كل مكان، وتتوقف إبراهيم مرة أخرى وتقول: «فوضى فوضى»، لدرجة أن زوجها لم يستطع البقاء هناك أكثر من 5 أيام في حين ألحت بأن تبقى بمفردها، فظلت هناك لمدة أسبوعين عادت بعدها إلى لندن قبل معركة الفلوجة بقليل، ورجعت بمعنويات محطمة، ونفسية مدمرة، والأخبار التلفزيونية لم تساعدها على الشفاء من فاجعة ما رأته عيناها مما تكبده ويتكبده شعبها وأفراد عائلتها.

وفي يوم من الأيام، وكان الحزن لا يزال يفتك بمشاعرها، قالت لها ابنتها: «لما لا تكتبين عن مشاعرك وعما يدور في رأسك؟»، فاستجابت إبراهيم إلى نصيحة الابنة وجلست أمام شاشة الكومبيوتر تكتب عن ذكرياتها في بلاد مزقتها الحرب، ولكن في كل مرة كانت تكتب فيها عن حنينها كان الأكل والطعام يقفان لها بالمرصاد، وكانت تربط الحنين دائما بالمطبخ والمأكولات العراقية التي كانت مفتاح حنينها إلى بلادها. وتقول إبراهيم: «أنا لست كاتبة متمرسة، إنما الكتابة ساعدتني على تخطي أحزاني»، وبعدها وجدت نفسها تكتب عن الأطباق العراقية في سياق كتاباتها عن ذكرياتها في العراق، وذكرياتها مع والدتها رحمها الله وخالتها وعمتها.. وذكرياتها في الأعياد الدينية والأكلات المخصصة للعيد..

ومن دون أن تشعر راحت تستجمع أفكارها وتكتب عن المأكولات العراقية، وغاصت في بحر التفتيش عن جذور المطبخ العراقي الغني، وهكذا ولدت فكرة الكتاب، وبعد بحث معمق في المكتبات عن كتب عن المأكولات والمطبخ العراقي لم تجد إبراهيم ما ينصف هذا المطبخ العريق الذي يعتبر جزءا لا يتجزأ من التاريخ والثقافة التي يعتز بها كل عراقي، وقررت أن تصدر كتابها بهدف صرف نظر المجتمعات الغربية عن الصورة السلبية التي ترافق أخبار العراق.

فأصدرت 4 آلاف نسخة تم بيعها في بريطانيا وعدة دول أوروبية أخرى وأميركا ولبنان والأردن وسورية ودبي وإندونيسيا، وكانت الطبعة الأولى باللغة الإنجليزية لأن الكتاب يخاطب الغربيين بالدرجة الأولى، فالهدف منه، كما ذكرنا من قبل، هو تعريف الغرب بالثقافة العراقية والمطبخ العراقي الذي يعتبر من أقدم المطابخ في العالم، وتضيف إبراهيم أن أبحاثها بينت لها أن الوصفات العراقية مثل طريقة تحضير الخبز العربي أو (العراقي) كانت من زمن السومريين أي منذ أكثر من 5 آلاف سنة قبل الميلاد، وبعدها طرأت بعض التغييرات على المطبخ مع دخول مطابخ أخرى على الخط مثل المطبخ العثماني في العهد العثماني، والعصر العباسي، وتعطي إبراهيم مثالا على ذلك وتقول إن العراقيين ابتكروا عددا من الأطباق قام بعدهم الأتراك بنشرها حول العالم، مثل طبق «البسبوسة» الذي ابتكره في الأصل العراقيون وكان اسمه «المأمونية» نسبة إلى اسم الخليفة الذي أحب طعم هذا الطبق وحرص على تقديمه لضيوفه الذين يأتون لرؤيته من أرجاء العالم كافة، مما جعل هذا الطبق بمثابة طبق تقليدي لكثير من الشعوب العربية الأخرى.

وتتكلم إبراهيم عن المطبخ العراقي وتصفه بالتنوع والثراء وأن جذوره تمتد لآلاف السنين، وتقول إن العراقيين اشتهروا أيضا بطرق رائعة لحفظ الطعام لا سيما في منطقة الشمال من العراق، أما لدى أهالي الجنوب الواقع على «طريق البهارات» فتجد أنواعا لا تحصى ولا تعد من البهارات، ويشتهر أهالي الجنوب بخلط البهارات وتحضير المخللات، فهم يخللون كل شيء حتى التمر، ففي البصرة توجد مئات الأنواع من التمور، في حين تشتهر منطقة الوسط بالسمك المسقوف إضافة إلى الدولمة، وساهم أيضا في تنوع الطعام الزيجات المختلطة ما بين العراقيين والإيرانيين فكانت النتيجة وصفات بنكهات مميزة.

وعن المكونات التي تستعمل في المطبخ العراقي وسهولة العثور عليها في لندن، تقول إبراهيم، إن العراق يأتي بالبهارات من الهند، إنما يتميز أهالي العراق بفن خلط تلك البهارات لتصبح كأنها بهارات خاصة بالعراق، وتقول إنه في بادئ الأمر كان من الصعب إيجاد البهارات والمكونات العراقية الرئيسية في لندن، وكانت عندما تنوي طهي أي طبق كانت تستعين بأحد القادمين من العراق ليجلب معه البهارات والمكونات، إلا أنه في فترة الثمانينات بدأت بريطانيا تفتح ذراعيها للكوزموبوليتانية الطعامية وأصبح بالتالي من السهل جدا إيجاد أي مكون لأي طبخة في أي مطبخ من مطابخ العالم، لا، بل أصبحت لندن مركزا مهما لثقافة الطعام في العالم وأصبحت تضم مئات الأنواع من المطابخ، فهي لا تنشر فقط المأكولات إنما تنشر أيضا الثقافة، وهذا هو الهدف من كتاب الطبخ الذي يعتبر سفيرا لحضارة وثقافة أي بلد.

وليلة الأربعاء الماضي، لبت لميس إبراهيم دعوة المركز العربي البريطاني للقيام بطهي بعض وصفات كتابها «The Iraqi Cookbook» بطريقة حية أمام جمهور من الصحافيين ومحبي الطعام، واستضافت تلك الأمسية المميزة غاليري الطبخ اللندني وتعرف باسم «Books for Cooks» تعنى بتسويق كتب الطهي المميزة وتنظم يوميا أمسيات مخصصة للطهي من مختلف مطابخ العالم بحضور أسماء لامعة من خبراء الطهي والطهاة بتحضير أشهر الأطباق التايلاندية والفرنسية وغيرها أمام الجمهور مع تقديم النصائح والشرح المفصل عن كل أكلة.

وتلك الأمسية كانت مخصصة للعراق للاحتفاء بمطبخه الأثري والغني، فقامت إبراهيم في تلك الأمسية بتحضير كبة «حامض» باللفت وصلصة الطماطم، ونوعين من الشوربة؛ الأولى مكونة من العدس المجروش الأحمر مع الحمص، والثانية مكونة من الفاصوليا والحمص مع لحم الضأن والبهار الأسود، وطبق الأرز مع الدجاج بصلصة الرمان والجوز «فسنجون»، وانتهى المهرجان الطعامي بحلوى الجوز والتمر «كيك التمر» و«حلاوة دبس» وهي عبارة عن خبز محمص مع شراب الدبس.

وقامت د. إبراهيم إلى جانب صاحب «بوكس فور كوكس» الطاهي الفرنسي إيريك تروي، بتحضير الكبة وتعليم الحاضرين طريقة عملها بعد أن قامت بشرح مكونات المطبخ العراقي الذي وصفته بكونه الأقدم في العالم، وبدا الحضور المؤلف من مختلف الجنسيات العربية والغربية مهتما بالمأكولات العراقية.

وعن الأكلات المفضلة لدى لميس إبراهيم تقول، إن الكبة اللبنية تذكرها بأمها التي لها الفضل في تعليمها الطهي منذ أن كانت في سن الـ13، كما أنها تحب «الكليشة» لأنها تذكرها بالأعياد، والشيء نفسه بالنسبة لطبق «الشكرلما»، أما بالنسبة للدولمة فهي تذكرها بخالتها، رحمها الله، التي كانت بارعة في تحضير هذا الطبق العراقي المميز وكانت تحرص على تعليم لميس أسرار تحضيره، وتعود إبراهيم وتقول: «رأيت كيف ترتبط كل ذكرياتي بالأكل في العراق؟»، وتتابع أن هناك بعض النكهات التي تصفها بنكهات الحنين إلى الماضي مثل «كيكة التمر والجوز» التي يشبه مذاقها طعم العراق الغالي، طعم ملؤه الحلاوة والتنوع.