الكرز.. الفاكهة المدللة

من الشجرة إلى المائدة إلى المعلبات

TT

مع بداية شهر مايو (أيار) من كل عام وبدء الشهور الربيعية والصيفية الدافئة تتهافت الدمشقيات على أسواق بيع الخضار لشراء (الكرز)، تلك الثمار لذيذة المذاق الحلوة والمزة (الحامضة) وذات اللون الأحمر بمختلف درجاته من الزهر المخطط والمكحل وحتى الأحمر القاني وإلى الأحمر الغامق المائل للسواد الذي يشبه لون العنب الأسود، وتهافت الدمشقيات على شراء الكرز ليس فقط لتقديمه ضمن فاكهة الموسم كضيافة أو لتناوله بعد قيلولة العصر وفي المساء، بل لاختيار الأنواع الخاصة منه لتحويله إلى مربى لذيذة الطعم والمذاق وليكون مونة لفصل الشتاء، حيث يقدم بلونه الأحمر الجميل على الفطور ويؤكل كمربى مع الزبدة والجبنة البلدية.

والكرز، الذي يتميز بأنه من الثمار قصيرة موسم الإثمار، حيث يستمر موسم ثماره في الأسواق نحو ثلاثة أشهر لنهاية شهر يوليو (تموز) تقريبا، فعمر ثماره قصير وهو يعشق المناطق الباردة كشجرة، إذ ينمو في المناطق المرتفعة والجبلية، ولذلك تشتهر مصايف ريف دمشق بوجود عشرات آلاف أشجار الكرز فيها ومنها معلولا والزبداني وسرغايا، وكذلك ينمو في مناطق جبل الشيخ جنوب دمشق التي تتميز بطقسها البارد، وفي مناطق جبال الساحل السوري المرتفعة وفي منطقة أدلب قرب حلب، وبسبب نموه في مناطق سورية متنوعة فهو يشاهد في الأسواق بأشكال وأحجام مختلفة تبعا للمنطقة التي جاء منها، والكرز الذي يسمى علميا باسم: THE CHERRIES)) وينتمي لمجموعة أشجار اللوزيات (stonefruits) متساقطة الأوراق وللعائلة الوردية (Rosaceae) ولجنس (Cerasus) جاء إلى منطقة الشرق الأوسط والبلدان العربية من موطنه الأصلي وهو منطقة ما بين البحر الأسود وبحر قزوين، وانتقل منها إلى أوروبا ومن ثم إلى منطقة المتوسط وهو يتوضع في مجموعتين - حسب الباحثين العلميين - الأولى ذات قيمة تجارية نسبة لثمارها المأكولة، وتعتبر ثمار مائدة ولاستخدامات غذائية أيضا وتضم نوعين وهما: الكرز الحلو والكرز المز (الحامض) ولكل واحد منهما متذوقوها ومحبوها، وهناك النوع الثالث المسمى (المحلب) وهذا الأخير يستخدم عادة كأصل للصنفين الأولين، والمجموعة الثانية ليس لها قيمة تجارية وتعتبر من نباتات الزينة، والكرز من الثمار ذات القيمة الغذائية الجيدة، حيث يشبه تركيب ثمار الدراق والمشمش والخوخ، حيث محتواه من الماء كبير ولكنه يعتبر من أغنى ثمار الفاكهة بحامض الاسكوربيك (فيتامين C) وحامض الماليك والطرطريك، كما أنه غني بالمواد القلوية (كربونات الصوديوم) ويحتوي مشتقات مادة (الساليسيلات) المعروفة بمقاومتها للالتهابات، وله استخدامات كثيرة في الطب الشعبي لفوائده الغذائية والصحية، حيث يعالج العديد من الأمراض، كما يخثر الدم الجاري ويوقف نزيفه ويفيد القلب والتنفس، كما أنه يفيد في علاج ضعف السمع وحواس الشم والذوق ويسكن الأوجاع، ويعتبر مضادا حيويا طبيعيا، وإذا خلط مع مواد أخرى فيمكن أن ينتج منه مستحضرات طبية نباتية تفيد في علاج بعض الأمراض الجلدية مثل الجرب والبرص، وكما لثماره فوائد كثيرة فإن لعيدان ثماره (الأذناب) التي ترتفع من أعلى الثمار فوائد صحية وعلاجية أيضا، حيث يقال إنه في حال قطعها من الثمار وغليها بالماء لبضع دقائق ومن ثم شرب المنقوع المغلي مصفى فإنه مفيد في إدرار البول ولذلك يفيد المرضى المصابين بالرمال البولية والحصى حيث يعمل على التخلص منها.

وتتحدث عبير المصري (أم عمار) شارحة لـ«الشرق الأوسط» طريقة تحويل ثمار الكرز لمربى: تقوم المرأة باختيار الصنف الأحمر الغامق المائل للسواد منه فهو الذي يصلح فقط لتحضيره كمربى وتتم العملية وفق المراحل التالية: تغسل الثمار جيدا ويترك ليجف وتزول رطوبة ماء الغسيل منه ومن ثم تبدأ مرحلة التفصيص أي إزالة البذار الداخلية من كل ثمرة على حدة وتزال الأذناب أيضا من الثمار وبعد ذلك تتم معايرة الخليط، حيث يحدد لكل كيلوغرام من الكرز المزال منه البذار كيلوغرام واحد من السكر ويوضع في وعاء معدني بشكل متقن ومنظم وعلى طبقات متتالية، إذ توضع الثمار ويرش فوقها السكر لتوضع طبقة أخرى ويرش السكر أيضا وهكذا دواليك حتى تنتهي الكمية المراد تحويلها لمربى، ومن ثم يترك هكذا في الوعاء المغطى من الأعلى لمدة نحو ثلاث ساعات، وفي هذا الوقت يكون الخليط قد امتزج بالماء الناتج عن ذوبان السكر مع خروج الماء من داخل ثمار الكرز، حيث تتميز بكثرة ما تحتويه من ماء، وبعد ذلك تبدأ مرحلة غليه على النار الهادئة جدا وهنا ينصح بجعل حرارة الموقد ضعيفة حيث يوضع بأقل مقياس لكي تستمر عملية الغلي بشكل هادئ، وتقوم المرأة بالكشف الدائم على الخليط وهو على الموقد وتحريكه باستمرار، وبعد نحو الساعتين يكون الخليط قد تحول لسائل لزج، وهنا يطفأ الموقد ويترك الخليط في الوعاء حتى يبرد لعدة ساعات ومن ثم يعبأ في أوعية زجاجية ويخزن لفصل الشتاء لتناوله ثمارا حلوة المذاق في أيامه الباردة، خاصة أن شكل الثمار يبقى تقريبا كما هو حتى بعد غليه ويأخذ شكلا أحمر جميلا بحيث - تضيف أم عمار - يشكل على مائدة الإفطار أو العشاء منظرا بديعا وهو موضوع في الصحن البلوري إلى جانب النواشف التي تشكل الوجبة الأساسية في الفطور والعشاء التقليدي للدمشقيين ومنها الزيتون بنوعيه الأخضر والأسود (العطون) والزعتر مع الزيت والشنكليش (السوركه) والجبنة البلدية الحلوم والمشللة والزبدة البقرية واللبن المصفى ومربى المشمش أو التين أو القرع أو الكرز.

ولا يقف الدمشقيون في استخدام ثمار الكرز المدللة عند حد تحويله لمربى بل أوجدوا له استخدامات أخرى ومنها تزيين أطباق الجيلو الجاهزة للتناول بثماره الحمراء المنزوعة البذور والمقطعة لقطعتين أو أكثر، كما يتم تزيين أقراص الحلوى بمربى الكرز بحيث يوضع في القرص طبقتان من المربى واحدة داخله والثانية على سطحه، كما يقوم البعض من النساء وحتى المحلات التجارية بتزيين المعمول والبتيفور بكمية قليلة من مربى الكرز بحيث توضع فوق كل قطعة بتيفور حبة أو جزء منه محلاة ليزيد الحلو حلاوة.