كروم العنب.. حكاية تبدأ في أوائل كل صيف في سورية

اليبرق واليالنجي والقريميطة.. فن تتبارى فيه الدمشقيات

مشهد من احد المسلسلات السورية وفيه يبدو تحضير ورق العنب («الشرق الاوسط»)
TT

عندما كانت السيدة فيروز تزور دمشق في أواخر الصيف للمشاركة في مهرجان معرضها الدولي الفني وقدمت أغنيتها الرحبانية الشهيرة التي تغنت بها بالشام وأهل الشام والتي يقول مطلعها: (شآم أهلوك أحبابي وموعدنا أواخر الصيف آن الكرم يعتصر).. هذه الكلمات المعبرة حقيقة عن الواقع، حيث يكون عنب الشام اللذيذ قد نضج وأصبح جاهزا للعصر والتناول كثمار مائدة، ولكن للشوام حكاية أخرى مع كروم العنب تبدأ في أوائل الصيف وليس في أواخره، حيث الحكاية تبدأ مع (ورق العنب) الذي ينضج أخضر زاهيا بحجمه الكبير الذي يشابه كف اليد أواخر فصل الربيع من كل عام لتقوم الدمشقيات بتحويله إلى طعام لذيذ المذاق كما تعمل على وضعه في الجمادات (مونة لفصل الشتاء)، فورق العنب يشكل العنصر الرئيسي في أكلات شامية شعبية والتي صارت تقدم في أرقى مطاعم العاصمة دمشق على الغداء والعشاء، ومنها ما يتفنن الدمشقيون بجعله عصرونية (أي تناوله في فترة العصر بين وجبتي الغداء والعشاء)، وتأخذ الوجبات المحضرة من ورق العنب الأخضر تسميات محلية مستمدة غالبا من اللغة التركية، وهي كما يشرحها الطاهي السوري (فادي حاج) لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «هناك (اليبرق) وهو الأكلة الرئيسية التي يستخدم فيها ورق العنب مع الأرز واللحم والسمنة ويتم تحضيرها على الشكل التالي: يتم في البداية سلق ورق العنب على النار ومن ثم يوضع جانبا ليحضر في مرحلة تالية الأرز المنقوع بالماء الساخن بحيث تكون المقادير متعادلة هنا، حيث يحتاج كل كيلوغرام واحد من ورق العنب لكيلوغرام من الأرز، ثم يتم تتبيل الأرز المنقوع مع اللحمة الحمراء المفرومة والبهارات والعصفر والملح والسمن الحيواني أو النباتي، وبعد ذلك تبدأ المرحلة الأصعب في التحضير وهي مرحلة لف كل ورقة وحدها مع الأرز بحيث يوضع ملعقة من خلطة الأرز في قلب ورقة العنب لتطوى من الجانبين وتلف بشكل فني حتى لا تنفلت أطراف الورقة أثناء الطهي وتتخرب الوجبة فيخرج الأرز منها، وهذه المرحلة تحتاج لوقت طويل وجهد كبير من المرأة، وعادة يتعاون فيها أكثر من امرأة غير صاحبة المنزل، إذ تستعين بحماتها أو سلفتها أو جارتها أو شقيقتها (كما انتشرت حاليا في أسواق دمشق لفافات ورق العنب الآلية)، ويوضع بعد ذلك ورق العنب الملفوف في وعاء كبير وفي أسفله شرائح من اللحم الأحمر واللية (قطع دهنة الغنم)، وبعض الدمشقيات يضعن لحم الدجاج المقطع بدلا من اللحم البلدي الأحمر، وبعد ذلك يوضع الماء مع الملح ليطهى على النار لمدة نحو ساعة ونصف (حسب طراوة أو قساوة ورق العنب) ليصل لمرحلة الطهي الكامل وليقدم كوجبة رئيسية على مائدة الغداء تحت اسم اليبرق أو معربا محشي ورق العنب». ومن استخدامات ورق العنب المعروفة والمحببة للدمشقيين هناك (اليالنجي) ويتم تحضيره بشكل أصعب من اليبرق - يقول حاج - وهو ككلمة تركية تعني الكذّاب والمقصود فيه هنا أنه (يبرق - محشي - كذّاب) ورغم تسميته بالكذاب فإنه ذو مذاق لذيذ وفوائد غذائية كثيرة، وتحضيره صعب جدا ويحتاج لوقت أطول، وهو عادة يقدم كمقبلات إلى جانب التبولة والسلطات في المطاعم أو يتم تناوله على مائدة العشاء، ويشرح فادي طريقة تحضير اليالنجي التي تمر بعدة مراحل، حيث تقوم المرأة في البداية بسلق ورق العنب كما هو في اليبرق، ولتبدأ بعد ذلك المرحلة الصعبة والدقيقة وهي تحضير خلطة الخضراوات لحشي الورق فيها، وهذه الخلطة تتكون من خضراوات متنوعة وعملية التحضير دقيقة وتتم على الشكل التالي: ينقع الأرز بالماء (بمعدل كأسين من الأرز لكل كيلوغرام واحد من ورق العنب) ويترك جانبا لتبدأ مرحلة تحضير وتجهيز الخضراوات التي تكون قد غسلت ونظفت بشكل جيد وهي ثلاث باقات من البقدونس وباقة نعناع وكيلو ونصف من البندورة (الطماطم) وبصلة يابسة وسن ثوم وقرن فليفلة خضراء، حيث تقوم المرأة بتقطيع هذه الخضراوات وتنعيمها وتخلط مع الأرز المنقوع ويضاف للخليط نصف فنجان من دبس الرمان ونصف كأس كبيرة من زيت الزيتون الأصلي وملعقة من رب البندورة وملعقة نسكافيه وملعقة من القهوة، ويضاف الملح وملعقة صغيرة من الفليفلة الحمراء المجففة والمطحونة الناعمة مع مقدار ملعقة من العصفر والنعناع المجفف اليابس وتخلط جميعها مع بعض، وبعد ذلك تبدأ مرحلة الحشي واللف في ورق العنب مع زيادة الكمية من الخليط حسب حجم الورقة وحتى نحصل على ورقة عنب سميكة بحشوتها، وبعد ذلك تغمر اللفافات السميكة بالماء المملح وتغلى على النار حتى مرحلة النضج لفترة نحو الساعة والنصف، وبعد النضج يغلى من جديد ولكن مع كمية من دبس الرمان وتترك في ما بعد حتى تبرد تماما، حيث تقدم وبعكس اليبرق باردة وليست ساخنة ولتشكل نوعا لذيذا من المقبلات الغني بالمعادن والفيتامينات لوجود الكثير من أنواع الخضراوات فيه وغياب اللحم عنه.

ومن الأكلات الشعبية الشامية التي تحضر من ورق العنب وتأخذ تسميات محلية هناك (القريميطة أو الفرفيرة)، وتحضيرها يتم بشكل أبسط من اليبرق واليالنجي، حيث تتم على الشكل التالي: يسلق ورق العنب ويترك جانبا ومن ثم يتم تحضير البرغل الناعم المحمص بالسمن أو الزيت ويطهى على النار مع كأس ماء صغيرة، وبعد ذلك وقبل نضجه بدقائق يضاف له البصل الأخضر المفروم مع النعناع الأخضر والفليفلة الحمراء الناعمة المجففة، ويقدم بعد ذلك في وعاء كبير وإلى جانبه ورق العنب المسلوق (وهناك طريقة أخرى لتحضير البرغل تعتمد على تحميص البرغل الناعم ويطبخ حتى النضج على نار هادئة جدا ثم توضع فوقه الخضراوات المفرومة والمكونة من حبة بندورة وحبة خيار وقليل من البقدونس والنعناع المفروم الناعم، ويضاف إليه عصير الليمون الحامض فيتحول إلى خليط لذيذ المذاق، ويؤكل بأصابع اليد وبطريقة مميزة، إذ يقوم الشخص بالتقاط ورقة العنب ويغرفها بالبرغل الساخن المحضر والمطهي جيدا ويقوم بفتلها بشكل يشابه تناول وجبة المنسف في البادية، حيث توضع في الفم على شكل لقمة كاملة). وهناك بعض من محبي وذواقي ورق العنب يستخدمونه في تناول التبولة كمقبل غذائي بحيث تفتح ورقة العنب الخضراء الطرية وتغمس بالتبولة حتى تمتلئ الورقة من كل جوانبها فيتناولها الشخص بيده، مستفيدا من مذاق التبولة مع ورق العنب اللذيذين.