قلب الخرطوم يستضيف الضيعة اللبنانية

المطاعم اللبنانية في السودان.. زواج بين حضارتين

TT

انتشرت المطاعم اللبنانية والسورية بكثرة داخل العاصمة السودانية الخرطوم متميزة باختيارها لأماكن في وسط العاصمة، مما نقل مرتادي هذه المطاعم إلى أجواء المأكولات العربية واللبنانية، والشعور لبعض الوقت بأنهم موجودون في إحدى القرى اللبنانية، أو في أجواء مسلسل «باب الحارة»، بسورية. ومن أشهر المطاعم اللبنانية الموجودة في الخرطوم مطعم «الساحة» أو ما يعرف بـ«قرية لبنان التراثية» المبنية من الحجر وتتميز بوجود فندق «الخان» ملحق بالمطعم تطل غرفه على باحة المطعم المزينة بنوافير وشلالات مياه مصممة على شكل شلالات صغيرة، بالإضافة إلى حمام سباحة يحكي تزاوج حضارتين.

ثم يأتيك صوت فيروز تبث أغانيها من خلال سماعات تنتشر في كل الساحة لتكتمل صورة الضيعة اللبنانية مع من يقومون بخدمة الزبائن باللباس التقليدي اللبناني والطربوش الأحمر داخل المطعم حيث تفوح روائح المشاوي والتبولة والفتوش وخبز التنور الساخن، إلى جانب مناظر الجرار والقمريات والمزاريب وأشجار النخيل وكل مفردات الضيعة اللبنانية.

زوار المطاعم اللبنانية هم غالبا من الميسورين ماديا أو وفود أجنبية تابعة للشركات الكبرى في السودان أو من الموظفين في الأمم المتحدة والمنظمات الأجنبية العاملة في العاصمة، والعرب الزائرين وضيوف البلاد المرموقين. وكنتيجة طبيعية انتشرت ثقافة التبولة والفتوش والمناقيش والحمص بزيت الزيتون داخل المطبخ السوداني والمناسبات السودانية.

تقول غادة حسين عائدة من «الخليج»، طعم الأكل الشامي محبب للنفس وهو ما تعودنا عليه في الخليج أيام العطل والإجازات نذهب للمطاعم اللبنانية والسورية المنتشرة بكثرة، أما هنا على سبيل التغيير نقوم بارتياد مطاعم تحمل الصبغة العربية أو العالمية، وشخصيا أفضل مثل هذه النوعية على المطاعم السريعة. وكما هو معروف فإن الطعام ينقل ثقافة الآخرين إليك دون أن تسافر إليهم.

تعتقد سمية عباس، أن انتشار المطاعم اللبنانية جاء نتيجة لانفتاح اقتصادي، وتعتبر مطاعم كـ«قرية لبنان التراثية» ملتقى طرق للثقافات من جميع الجاليات العربية والغربية هنا في السودان، وتضيف قائلة عندما دخلت المطعم لأول مرة انتابني إحساس بأنني في ضيعة لبنانية وبعد كثير من التأمل في وجوه الحاضرين شعرت أن العالم قرية صغيرة كما يقال لنا دائما وشعرت بمدى قدرة مائدة الطعام على جمع عدد من البشر لا تستطيع طاولات المفاوضات السياسية على جمعهم.

ترجع منى فتح الرحمن إحدى زائرات مطعم «قرية لبنان التراثية» سر نجاح المطاعم اللبنانية في السودان إلى انفتاح الاقتصاد بالإضافة إلى عدم وجود مطاعم بهذا المستوى، ما عدا الفنادق الكبرى مثل هيلتون أو غراند فيلا، مما سهل على المستثمرين العرب الدخول إلى بلد ثقافة الأكل فيه متأثرة بالمطبخ المصري أو المطبخ السوداني التقليدي فقط، فكان الظهور من خلال التبولة والحمص مختلفا ومحببا على الذائقة السودانية.

وتضيف منى قائلة: إنها تحب أن تستضيف ضيوفها دائما هنا في «قرية لبنان» لإحساسها بمدى انتعاش التراث اللبناني المتزاوج مع التراث السوداني. وعن اختيار السودان لافتتاح هذه النوعية من المطاعم ذات النمط الكلاسيكي والراقي، يقول موسى حيدر، المدير المالي والإقليمي لـ«قرية لبنان التراثية»، كنا نريد مكانا يليق بقريتنا التراثية فكان اختيارنا للسودان وقطر بعد افتتاحنا للقرية في لبنان أولا وزاد من ثقتنا في حسن اختيارنا جو الأمن والأمان الذي ينعم به السودان ووجود حضارة يمكن مزاوجتها مع الحضارة اللبنانية الغنية.

ويضيف حيدر قائلا: إننا استفدنا من التراث السوداني كثيرا وقمنا بعملية تدوير للمواد المستخدمة في البناء فاستخدمنا البروش والحصير وخشب السنط والخيش واستعنا بتراثيات سودانية في الديكور مثل «السعن» و«الككر» و«المشلعيب» وجلود المواشي لتخرج تحفة معمارية فريدة في بلاد النيل، كل هذا المراد منه منح مرتادي الساحة متعة استدعاء القرية إلى قلب المدينة وهي الفكرة الأساسية لإنشاء هذه المجموعة من المطاعم على مستوى العالم.

أحدث وجود هذه القرية التراثية اللبنانية ومطاعم الوجبات السريعة الشامية داخل العاصمة حراكا اجتماعيا وعرف الآخرين بما يحويه السودان من ثقافات، مما فتح الباب لزواج لبنانين من سودانيات والعكس، ومعرفة مفردات اللغة السودانية المحلية التي كانت إلى وقت قريب لغة غير مطروقة.

بالإضافة لإسهامات هذه المطاعم في خلق كادر سوداني مدرب على مستوى خمس نجوم للخدمات الفندقية والسياحية فأكثر من 70%من العمالة السودانية تتسلم العمل في هذه المطاعم بعد السنة الأولى من الافتتاح مع المحافظة الشديدة على معايير الطعم اللبناني أو الشامي الأصلي.

لم يكن التزاوج في مطعم «الساحة» على مستوى الديكور فقط بل تجاوزه إلى مستوى الطعام حيث تنوي «القرية التراثية» تقديم وجبات تقليدية سودانية مثل العصيدة وعصائر التبلدي الشهيرة في شهر رمضان. تحكي قائمة الطعام اللبنانية الموجودة في السودان عن قصة نجاح تقبل السودانيين للكبة النية وصحن الفراكة وإضافتها إلى جانب صحن المرارة المفضل لدى السودانيين في عيد الأضحى أو المناسبات الاجتماعية.

تشير الإحصائيات إلى أن حجم الاستثمارات اللبنانية بالسودان بلغت حتى الآن 2.226 مليار دولار مع وجود 1500 رجل أعمال لبناني في البلاد. ويبقى أن نذكر أن الإنسان اللبناني لا يكل ولا يمل ويتألق دائما في نشر ثقافته ومزجها مع الآخر.