مطعم الدنون يحيي تراث المائدة الشرقية في طرابلس

.. وأصبح للحمص عنوان

طبق من الحمص مع اللحم المفروم والصنوبر («الشرق الاوسط»)
TT

قبل فترة قصيرة، وقعت حرب بين إسرائيل ولبنان. لم تكن الحرب، بمعناها التقليدي المعروف. لم تستخدم الأسلحة ولا دخل الجنود الإسرائيليون ولو إلى متر واحد من الأرض اللبنانية. كما لم تشن الطائرات الحربية الإسرائيلية غاراتها المعتادة في حالات الحرب. كانت حربا ثقافية دارت رحاها في صحن حمص. اللافت في هذه الحرب، هو بعدها الإنساني والثقافي، وليس فقط الحمص. إذ ليس بحسب المعلومات، أن من عادة الإسرائيليين، على سبيل المثال، أكل الحمص، واعتباره جزءا من المطبخ الإسرائيلي. تؤكد ذلك، كافة الكتب الخاصة بالمطبخ الإسرائيلي في طبعاتها القديمة في أوروبا، باستثناء أتباع الديانة اليهودية الذين كانوا ينتمون إلى بلاد الشام. هو طبق عرفه هؤلاء الناس، فقط، منذ وطأت أقدامهم أرض فلسطين واستعمروها. ولأنهم استوطنوا الأرض فهم يحاولون استيطان الحمص والفلافل والفول والمجدرة وغيرها من أكلات تختص بها بلاد الشام، ومنها لبنان وفلسطين على وجه الخصوص. والحق، إن الشواهد على خسارة الإسرائيليين للمعركة، تتجاوز بكثير المنافسة على صفحات «موسوعة غينيس». فلا الطبق اللبناني حتى لو كان وزنه عشرة أطنان سيكون الرابح، ولا الطبق الإسرائيلي حتى لو تجاوز المائة طن. الرابح هو التراث والتقاليد المتجذرة أكثر عند طرف دون الآخر. والمعركة هنا، بحسب هذا المنطق، معركة على الملكية الفكرية، على براءة الاختراع، وفوق هذا كله على العادات اليومية للشعوب. هذا الجانب يظهر كثيرا في مراقبة الحياة اليومية والنسق الغذائي بينها. ولئن اشتهرت أطباق الحمص والفول والفلافل في منطقة الشرق الأوسط أو بلاد الشام تحديدا، فلأنها والحال هذه جزء من عادات وتقاليد شعوب المنطقة وليست فقط مجرد ترف غذائي. واللافت في هذا الجانب، أنه حتى في إسرائيل فإن أصحاب المطاعم الخاصة بتقديم هذه الأطباق، هم من العرب الفلسطينيين الذين لم يتركوا أرضهم قبل ستين عاما. كما أنه ليس الطبق الشعبي سوى بين العرب.

تتناول هذه المقالة، أحد المطاعم الخاصة بتقديم الفطور التقليدي في بلاد الشام وهو مطعم الدنون في مدينة طرابلس شمال لبنان. هذا المطعم الذي تأسس أواخر الأربعينات من القرن العشرين، لا يعتبر فقط، عنوانا لهذه الأطباق التقليدية مثل الحمص والفتة والفول والمسبحة. بل معلما من معالم المدينة التي تفخر بنفسها، كونها ثاني أهم مدينة فاطمية في العالم بعد القاهرة. وهو إلى ذلك موجود في شارع جبران خليل جبران أحد أكبر العلامات الثقافية اللبنانية في العالم. يمتاز هذا المطعم، بأنه لم يقصر تقديم هذه الأطباق في الصباح وإنما طيلة أوقات النهار تقريبا. وهو يمتاز بصالته الواسعة والحديثة لكن أيضا بطريقة العمل التقليدية التي لم تتغير، منذ أن أسسه ياسر عبد الهادي قبل ستة عقود ناجزة. وليس غريبا على هذه الحال أن يعرفه كل سكان المدينة، كبيرا وصغيرا، تماما كما ساحة التل، التي لا تبعد عنه كثيرا، ولكنها تتقدم عليه في السن بساعتها الشاهقة التي لا تزال شاهدة على الوجود العثماني قبل أكثر من قرن. كغيره من هذه النوعية من المطاعم التقليدية، يمتاز الدنون، بأن خبرته مستمدة من التراث. فصحن الحمص التقليدي الذي يوجد على كل مائدة لبنانية، ويعتبر، بحسب كثير من الطهاة، من أصعب الأطباق تحضيرا، لناحية الدقة في مقاديره بين الحمص والطحينة والحامض أو عصير الليمون تحديدا، التي تتناغم فيما بينها لتؤلف أوركسترا شهية. ليس هو الصحن الوحيد الذي يؤلف هذه المطاعم. ونجد في الدنون، بعض الأطباق التي لا تقدم بنفس الطريقة في أمكنة كثيرة مثل الفتة، التي تقدم بطرق كثيرة، سواء بخلط الحمص وكسرات الخبز المحمصة وماء الحمص المكربن باللبن ومن ثم إضافة اللحمة المقلية مع حبات الصنوبر. أو إضافة الطحينة التي تكون عادة طيبة جدا في هذا الطبق دون غيره من الأطباق، والفتة قبل الطحينة كانت دائما تحضر بإضافة اللبن دون غيره. إلى أن أخذت الطحينة دورها، ليس بسبب وجودها فقط وإنما بسبب وجودها في مجتمع مختلط دينيا. فهي كانت قبل ذلك تناسب المسيحيين في شهر الصوم حيث يمتنعون عن أكل مشتقات الحيوانات ومنها اللبن. جاءت الطحينة، وبشكل مميز لكي تنهي حرمان المسيحيين من هذا الطبق المميز، خاصة في أيام الصوم. فكرة عبقرية في استخدام المكونات.

أما الجانب اللافت في هذا المطعم، فهو الصالة الكبيرة والواسعة والمجهزة كما لو أنها صالة لمطعم يقدم مرحلة واسعة من الأطباق. هذا احترام للطبق الشعبي الذي لم يعتد على مثل هذا الترتيب والأناقة.