سراييفو القديمة.. قصة طويلة مع المطبخ

للقهوة هناك نكهتها ومعداتها الخاصة

TT

سراييفو متحف تاريخي مفتوح، يكشف عن نفسه حال نزولك من المركبة التي تستقلها في الجزء الشرقي من المدينة الشهيرة التي بناها العثمانيون، وانطلقت منها شرارة الحرب العالمية الأولى.. ومن عند المكتبة الوطنية المحترقة، التي يعاد ترميمها منذ عدة سنوات، تشعرك المشاهد التاريخية والموضوعية بأن لا أحد في سراييفو، سوى ما تشاهد. إذا وليت وجهك باتجاه الشرق، ترى مسجدا.. وإذا تحولت إلى الغرب يبدو لك جامع الغازي خسرف بك، بين موائد فيها ما لذ وطاب، وهي المطاعم الشعبية الواقعة على جانبي الشارع الذي يفضي إلى شوارع وأحياء ومعالم كثيرة في سراييفو، من بينها جامع الغازي خسرف بك. وهي مطاعم يجد فيها المرء كل ما يرغب فيه، وما يريد معرفته من أصناف الطعام البوسني، وغير البوسني، من الكباب إلى الفطائر المحشوة باللحم أو البطاطس، أو اليقطين، أو الجبن أو السبانخ، وغير ذلك. ادخل إلى أحد مطاعم الفطائر التي يطلق عليها في البوسنة البيتا، واطلع على طريقة التحضير فوق وتحت الجمر. إلى جانب ذلك هناك مطاعم أخرى تقدم المأكولات البوسنية، كالسارما (الأرز المحشو) وبوسانسكل لوناتس (طبيخ من خضار ولحم) وسيتني تشافاب (مرق لحم مقطوع في قطع صغيرة) وغير ذلك.

وما إن تبلغ نهاية ذلك الشارع الصغير، حتى تدخل في ساحة باش تشارشيا، وهي ساحة تطل على عدة دكاكين وتعد مهد الصناعات التقليدية في البوسنة، ولا سيما صناعة النحاس التي ورثها البوسنيون عن الأتراك منذ مئات السنين، وأصبحت بفعل التوطين صناعات تقليدية محلية تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل. فمن النحاس تصنع أواني الطبخ ودلات إعداد القهوة، والأباريق والحلقات النحاسية التي يزين بها أبواب ومداخل المنازل والفيلات والحدائق، كما أن هناك فن الرسم على النحاس، حيث شاهدت «الشرق الأوسط» لوحات رائعة لمدن ومساجد، وأشكال هندسية قمة في الإبداع الفني، بل هناك لوحات نحاسية كتبت عليها آيات من الذكر الحكيم وفق أشكال الخط العربي الجميل. وقال عصمت حسينوفيتش (30 سنة) من سراييفو لـ«الشرق الأوسط»: «ورثنا هذه الصناعة عن أجدادنا، وأسرتنا تنهض بهذا العمل منذ 280 عاما. ولا توجد أماكن للتصنيع وأخرى للعرض، بل كل ذلك يقع وسط المدينة وداخل المحل نفسه دون أن يؤثر على الهندام العام أو المظهر الجذاب. هذا ميراث الأجداد أخذت الصنعة عن والدي الذي أخذها عن جدي وأخذها بدوره عن أبيه وسأورثها لأولادي، وهذه التقاليد لن تموت بعون الله». وعن أفضل المبيعات قال: «الدلة لإعداد القهوة والفناجين التي لها أغلفة نحاسية، فالكثير من الأوروبيين يسألوننا عن طريقة إحضار القهوة على الطريقة التقليدية، فقد أعجبوا كثيرا بالقهوة البوسنية التي يمكن أن تطبخ على الجمر أو الغاز أو الكهرباء أو غير ذلك». وعن طريقة إعداد القهوة على الطريقة البوسنية، أشارت عايدة، وهي الأخرى صاحبة دكان لبيع المنتجات النحاسية، إلى دلة صغيرة «مثلا نضع ملعقتين من القهوة في الدلة ثم نضعها على النار بعد ملئها بالماء وننتظر حتى تفور ثم ننزلها ثم نعيدها مرة أخرى ونقدمها مع السكر (قوالب) أو راحة الحلقوم».

في محيط الساحة توجد بعض مطاعم الشاورما وغيرها. وقال محمد تشاتين وهو تركي في الخمسينات من عمره لـ«الشرق الأوسط»: «قدمت إلى سراييفو قبل 10 سنوات، ومنذ ذلك الحين وأنا أعمل بشكل طبيعي». وككل صاحب عمل يخشى من المنافسة، ومن احتمالات أن يكون السائل صاحب مشروع مطعم شاورما فقد عمل على لملمة الموضوع: «سراييفو ليست مدينة كبيرة،( نصف مليون نسمة) وزبائني من الجالية التركية المقيمة في سراييفو، طلبة وغيرهم«.

باش تشارشيا، ليست الساحة فقط، بل سراييفو العتيقة كلها أو معظمها، وقبل أن تصل إلى جامع الغازي خسرف بك يسترعي انتباهك باب كبير يفضي لبناء عتيق، هو خان موريتشا.. أو موريتشا هان، كما يطلق عليه باللغة البوسنية، من أقدم وأشهر المعالم في البلقان على الإطلاق، فهو شاهد على 4 عهود، هي العهد العثماني 1463 - 1878 والحقبة النمساوية والهنغارية 1878 - 1919 والحقبة اليوغسلافية 1919 - 1990 ثم العصر الحديث الذي بدأ باستقلال البوسنة سنة 1992 حيث سبق ذلك فترة انتقالية لم تكن فيها البوسنة جزءا من يوغوسلافيا عمليا، ولا هي دولة مستقلة فعليا حتى تم الاعتراف بها من قبل الأمم المتحدة قبل 15 عاما. يقع مجمع موريتشا هان في قلب مدينة سراييفو العتيقة، باش تشارشيا، روح سراييفو، كما يقولون، ففيها عبق التاريخ، ومتعة الحاضر، ومنطلق آفاق الغد. وإذا كانت باش تشارشيا، روح سراييفو، فموريتشا هان، روح باش تشارشيا، وهي بالتالي روح الروح، كما يقولون أيضا. ولا يعرف السياح والأهالي تحديدا ما الذي يجذبهم لموريتشا هان، المطعم والمقهى والسجاد الإيراني. في الصيف تمتلئ ساحة موريتشا هان، وكثيرا ما يأتي الزبائن فلا يجدون لهم مكانا، وكثيرا ما يبقى كثير منهم واقفا في انتظار خلو مقعد أو طاولة ليتمتع بقسط من الوقت في هذا المكان الجميل والرائع بهدوئه ونوعية زبائنه. خرجنا من موريتشا هان، ولم نقطع سوى مسافة لا تزيد على 100 متر، حتى وجدنا أنفسنا أمام مسجد الغازي خسرف بك، وهو من أقدم المساجد في البلقان بني في 1537، وعندما تجاوزنا الباب الثاني لسور جامع الغازي خسرف بك، وقفنا عند صنابير المياه العذبة في نهاية السور، حيث بدا لنا شارع فرعي، ومكتبة على اليمين وهي مكتبة صغيرة تبيع المسابح والمصاحف والكتب الإسلامية والتحف وغيرها. وما إن سرنا خطوات قليلة في ذلك الشارع الفرعي، حتى استنشقنا عبق القهوة، كما لو أننا لم نشم رائحتها قط. وقد اقتفينا أثر تلك الرائحة فأوصلتنا أقدامنا إلى محل العم خير الدين بوراك، وعادت بنا المشاهد إلى ما يزيد عن 300 سنة خلت. وذلك قبل ظهور ماكينات طحن القهوة الحديثة، أي عندما كانت القهوة تدق دقا، أو تهرس هرسا، أو تطحن بالطرق العتيقة، حيث تستخدم عصا حديدية ذات رأس ثقيل في دق القهوة التي توضع في تجويف صخري (مدق) لا يأتي عليه الدهر. أما العصا الحديدية فيطلق عليها «يد المدق».

ويلاحظ الزائر وهو يقف في الجهة المقابلة لمدخل هذا المحل الصغير عبارة للكاتب زوكو جمهور، وهو كاتب مشهور في البلقان تتحدث عن القهوة التي تعبق رائحتها في أكناف المكان «هذه القهوة معدة على طريقة الدق، يشربها من يقدر الجودة ويعشق التقاليد»، بينما يقف وراء منضدة شيخ وقور هو العم خير الدين الذي مضى من عمره 62 عاما، لكنه يبدو أكبر من ذلك، رغم ابتسامته العريضة التي يستقبل بها زوار محله، وسخائه غير المحدود. وقال العم خير الدين لـ«الشرق الأوسط»: «كان لدي مقهى في منطقة فراتنيك، وهي المنطقة التي أنشأها العثمانيون وأحاطوها بالأسوار ثم أنشأوا العديد من الجسور على نهر ملياتسكا، وتوسعوا في المعمار حتى أصبحت سراييفو في ذلك الوقت من أفضل العواصم الأوروبية وأكثرها مدنية». وفي منطقة فراتنيك، التي تبلغ مساحتها ألف متر مربع، يوجد 11 مسجدا جامعا، ومقبرة الشهداء بما في ذلك شهداء العدوان الأخير على البوسنة 1992 - 1995، وضريح الرئيس الراحل علي عزت بيغوفيتش. وعما تختلف فيه القهوة المدقوقة أو المطحونة على الطريقة العتيقة عن غيرها، قال: «من يكتشف هذا المكان بمفرده ينبغي أن لا يسأل هذا السؤال»، ثم سأل بدوره «في أي مكان يمكن للإنسان أن يشم رائحة القهوة وهي خام على بعد عدة أمتار، هذه القهوة لها عبقها الخاص، ولها مذاقها المختلف، ولها خاصيتها المميزة».