المطبخ الألماني.. تقليد محلي مطعّم ببصمة تركية

الـ«دونر كباب» كان بمثابة جواز سفر الطعام التركي ليدخل من باب المطبخ الألماني العريض

الدونر كباب من أهم الأطباق التي تقدم في ألمانيا
TT

لا يجد زائر المدن الألمانية صعوبة في تحديد هوية مطبخ هذا البلد الذي ينتج سنويا أكثر من 11 مليون طن من البطاطا ليكون بمثابة الطبق الذي لا غنى عنه على المائدة اليومية. وهذه البطاطا التي يعشقها الألمانيون وينظمون لها مهرجانا سنويا، تدخل بأشكال وطرق مختلفة في معظم الأطباق كعنصر رئيسي أو ثانوي يضاف إلى أصناف عدة، لا سيما اللحم والدجاج والسمك. كذلك ومن جهة أخرى، تأتي المطاعم الصغيرة المنتشرة في الشوارع والأحياء والمتخصصة في تقديم «نقانق الكاريفيرست» أو الـ«هوت دوغ» لتكون خير دليل أيضا على أهمية هذا «الساندويتش» الذي يحتل موقعا أساسيا في وجبات الشعب الألماني الذي يتناولها على الطريق أو في أي مطعم فخم في أرقى شوارع برلين. ويمكن القول إن «ساندويتش النقانق» بالحجم الصغير المزين بالخردل دخل منذ عشرات السنين بمنافسة شديدة مع «الساندويتش التركي» الـمسمى «دونر كباب» الذي يشبه ما يعرف في الدول العربية بـ«الشاورما»، وهو الذي كان بمثابة جواز السفر للطعام التركي ليدخل من باب المطبخ الألماني العريض ويستقطب ليس فقط الأتراك المهاجرين في ألمانيا، بل والشعب الألماني بشكل عام والمسلمين والسياح على اختلاف جنسياتهم بشكل خاص.

ومن الـ«دونر» والأطباق التركية المتعددة صار للأتراك بصمتهم الأساسية في المطبخ الألماني الذي تجرأ بعض طهاته على إدخال مكونات تركية إلى أطباقه، وذلك بعدما استطاعوا إدخال اللحوم الحلال إلى ألمانيا وتأمين متطلبات العرب، خصوصا المسلمين منهم بافتتاحهم محلات متخصصة، إضافة إلى تلك التي تؤمّن معظم المواد الغذائية الشرقية والخضار التي تستورد في معظمها من تركيا وسوريا ولبنان.

وبالإضافة إلى تلبيتهم طلبات الأتراك بشكل خاص، يسعى أصحاب هذه المحلات إلى تلبية طلبات العرب في المناطق الألمانية، إذ ما كان لأحدهم مثلا في منطقة «بريمين» إلا أن اتفق مع لحّام لبناني كي يأتي خصيصا إلى محله يومين في الأسبوع ليحضر بعض أطباق اللحوم على الطريقة اللبنانية مثل «الكفتة» و«الكبة» و«الشيش طاووق» وغيرها. أما في محلات تركية أخرى فأتقن أصحابها سر هذه الأطباق وصاروا يتولون بأنفسهم المهمة، وإن كانت في بعض الأحيان تبقى فاقدة للهوية الأساسية، مثل «الكفتة» التي يطلق عليها الأتراك «شي كفتة» وتحضر من دون بقدونس.

مع العلم بأن الطلب على هذه اللحوم الحلال لم يعد مقتصرا على المسلمين، بل صار مفضلا بالنسبة إلى عدد كبير من الألمانيين الذين يحرصون على شرائها، مرجعين الأمر إلى الميزة في الطعم، وهذا ما يعبر عنه ماتياس، وهو شاب جامعي ألماني، بالقول: «إذا كان لدي الخيار بين اللحم الحلال واللحم العادي فسأنحاز بالتأكيد للأول لما يتميز به من مذاق أطيب».

وفي حين لا تختلف كثيرا المائدة الألمانية عن مثيلاتها في الدول الأوروبية من جهة أنواع الأطباق التي تحتوي إضافة إلى البطاطا على الدجاج واللحوم على اختلاف أنواعها مع ما يدخل إليها من الخضار والسلطات، يأتي الخبز ليأخذ حصته الكبيرة أيضا من التنوع، وليست الأسواق والمخابز المنتشرة إلا دليلا واضحا على هذا الواقع وما تقدمه من خيارات بكميات كبيرة جدا يجد معظمها طريقه للبيع، بينما يوزع يوميا القسم الباقي على المؤسسات الاجتماعية والعائلات الفقيرة. وكما معظم المأكولات كذلك الخبز كان له حصة أساسية من «العولمة المطبخية»، ففي ألمانيا توسعت دائرته وشملت الخبز التركي الذي تجندت أفران خاصة لإنتاجه وتوزيعه على المحلات التي تعرف بهويتها «التركية»، بينما لا يزال الحصول عليها من المحلات الألمانية صعب المنال. وبالنسبة إلى ما يعرف بـ«الخبز العربي» في لبنان فهو أيضا وجد طريقه في الأفران التركية التي صارت تعمل على تحضيره بطريقة جيدة، ويحرص اللبنانيون والعرب الموجودون في ألمانيا على شرائه ليكون حاضرا على مائدتهم.

أما خريطة المطاعم الألمانية فهي متنوعة بدورها، والمتنقل في الشوارع يلاحظ أن انتشارها، لا سيما الفخمة منها، ينحصر إلى حد كبير في المدن الرئيسية، بينما يبقى الأمر محدودا في المدن الأخرى التي يكثر فيها تلك المطاعم الصغيرة بمأكولاتها الألمانية والتركية مع وجود لا بأس به للإيطالية منها والفرنسية والصينية واليابانية. لكن ومما لا شك فيه أن كثرة المطاعم التركية التي تنافس لجهة عددها الألمانية منها، يبقى أمرا لافتا للنظر، لا سيما مع اتساع دائرة المأكولات المقدمة التي يأتي على رأسها الـ«دونر كباب» ويتبعه «مناقيش اللحم بعجين»، و«الفلافل»، أو تلك التي تجمع بين نوعين في الوقت عينه كـ«اللحم بعجين دونر»، أو «دونر بطاطا». وترتكز مكونات الـ«دونر» الرئيسية على اللحم أو الدجاج مقدمة في قطعة خبز تركية مع أنواع عدة من الخضار، كالبندورة والبصل والخس والملفوف والخيار في بعض الأحيان ويضاف إليها صلصة خاصة مصنوعة من اللبن والبهارات أو من الطحينة والحامض والزيت. ويشكل «مطعم علاء الدين» في أحد أحياء «بريمين» نموذجا لاتساع المطبخ التركي، فهو الذي افتتح في عام 1990 وكان لا يعدو كونه غرفة صغيرة يقدم فيها الـ«دونر» وبعض الساندويتشات التركية، إلى أن أصبح اليوم مطعما يتسع لنحو 80 شخصا، بعدما استطاع دمج المائدة التركية بالمائدة العربية ونجح في استقطاب الألمان والمهاجرين العرب على اختلاف جنسياتهم.

وفي ما يتعلق بالمأكولات الألمانية والحلويات التقليدية فهي مما لا شك فيه لا تزال تحتل موقعا مهما في الخيارات المتوفّرة، ويعتبر مثلا «زاور براتن» طبق المناسبات المفضلة في مدينة «كولونيا» بالتحديد وفي جميع أنحاء ألمانيا بشكل عام. ومن المعروف أن الاعتذار عن تلبية دعوة «زاور براتن» شبه مستحيل بالنسبة إلى الألمان، وهو الذي يقال إن تاريخه يعود إلى فترة النفوذ الروماني، أي تحديدا قبل 2000 عام، حين توقف قيصر الرومان أثناء زحفه التوسعي في مدينة كولونيا للتزود بالجنود والعتاد، ولما لم يحصل على مبتغاه ترك المدينة غاضبا على وجه السرعة، فنسي جنوده معداتهم وأطعمتهم ومن ضمنها هذا الطبق اللذيذ الذي أصبح منذ ذلك الوقت تقليدا متعارفا عليه في كثير من المناسبات العائلية، وهو مؤلف من لحم البقر والبصل والجزر والزبيب ويضاف إليها بعض أنواع البهارات.

وتحتل «سلطة البطاطا المسلوقة» المركز الأول من بين السلطات الألمانية ويفضلها الشباب في ألمانيا بشكل خاص نظرا إلى سرعة تحضيرها ومذاقها اللذيذ، وهي إما تحضر مع الثوم والبصل والفليفلة الخضراء مع صلصة زيت الزيتون والفلفل، أو مع اللحم والبيض المسلوق ومخلل الخيار الحلو والمايونيز.

وإضافة إلى فطائر الفواكه بأنواعها المتعددة، تعتبر الـ«كيزيه كوخن» المؤلفة بشكل أساسي من «لبن كوارك» واحدة من أقدم وأشهر أطباق الحلوى في ألمانيا التي تلبي مذاق عشاق الحلويات بطعمها الحلو المعتدل، وتكاد تكون حاضرة في كل المناسبات والأعياد، وتعد واحدة من أهم موروثات العهد الروماني التي لا تزال محافظة على موقعها في المطبخ الألماني.