البقلاوة والحلويات التركية تغزو أسواق كردستان

الكليجة الخجولة تفقد بريقها وتصبح في خبر كان

الطلب في تزايد مستمر في كردستان على حلوى البقلاوة
TT

في ستينات القرن الماضي عندما كان الزمن جميلا، كانت فصول السنة وشهورها جميلة أيضا، وعلى الأخص الأشهر التي تصادف فيها المناسبات والأعياد مثل شهر رمضان الفضيل على سبيل المثال، الذي كان شهرا استثنائيا بالنسبة لجميع العائلات العراقية، لما له من طقوس تميزه عن بقية شهور السنة، حيث تتحضر لها الأسر قبيل حلوله بأسابيع من خلال إعداد المراسيم الخاصة باستقباله.

فقد اعتادت الأُسر العراقية والكردية على تقديم الحلويات الخاصة بالمناسبات مثل الكليجة والبقلاوة المنزلية التي كانت معظم ربات البيوت الأربيليات العريقات يتفنن في صنعها ويتفوقن بها على المخابز والأفران. وكانت للبقلاوة المنزلية التي تحضر بالدهن وتمتاز برائحتها المميزة من حيث حشوها بمادتي «الهيل والدارسين» وغيرها من الروائح العطرة التي تضفي طعما في غاية الروعة عليها، تختلف كليا عن البقلاوة التي تباع في الأسواق.

وكانت هناك عائلات متوسطة الدخل ماهرة بإعداد الكليجة لرخص أسعار موادها قياسا إلى البقلاوة، بينما كانت العائلات الفقيرة تختزن التمر الأشرسي لشهر رمضان الذي كان يقع في الغالب في تلك السنوات في فصل الشتاء بلياليه الطويلة، فبعد صيام اليوم تحلو الحلاوة كما يقول الحاج جاسم، وهو رجل خمسيني عاش أجواء ذلك الزمن الجميل، ويقول: «كانت الأسر الأربيلية تتحضر منذ أسبوع قبيل حلول شهر رمضان بشراء المواد اللازمة لعمل البقلاوة أو الكليجة، وكانت معظم نساء كردستان وخصوصا المسنات يعرفن كيفية إعداد صواني البقلاوة المنزلية، وكانت النسوة المتزوجات حديثا يلجأن إليهن لتكليفهن بإعداد صينية بقلاوة لهن، فصنع البقلاوة المنزلية لم يكن بالأمر السهل، وكان يحتاج إلى خبرة كبيرة، ومهارة صانعة البقلاوة تتبين من عدد طبقات العجين المستخدم لصنعها، فكلما كان عدد طبقات العجين أكبر وأرق كان ذلك دليلا على مهارة الصانعة، والسيدات كن يتفاخرن بينهن بهذا المجال». ويستطرد: «أما الكليجة فلم تكن تحتاج إلى تلك الخبرة الكبيرة، بل كان بإمكان أي سيدة أن تحضرها، لأنها تخبز مهما كان سُمكها، كما أن المواد المستعملة في إعدادها ليست معقدة ولا تحتاج إلى ذلك الخليط المتعدد من المواد والعطور والأعشاب».

ويروي آزاد أحمد ذكرياته عن الليالي الجميلة في تلك الفترة ويقول: «في الستينات لم نكن نمتلك جهاز التلفزيون في بيوتنا، والليل كان طويلا جدا، لذلك كنا نحن فتيان المحلة نجتمع في أحد البيوت ونمارس الألعاب البريئة مثل لعبة (المحيبس)، وكان الشباب الأكبر منا يخرجون إلى المقاهي الشعبية لممارسة لعبة (الصينية والظرف)، وغالبا ما كنا نمضي ساعات الليل الطويل بالانشداد إلى الراديو الكهربائي الكبير في المنزل، ونادرا ما كانت لدينا أجهزة راديو ترانزيستور، وكانت أمهاتنا يأتين بين فترة وأخرى بصحن من الكليجة يوزعنها علينا، أو في بعض المرات يأتين بصحن من الزبيب المخلوط بالجوز، وكانت البقلاوة مظهرا من مظاهر الترف في تلك الفترة».

ويقول آزاد: «كانت أمهاتنا يبذلن جهدا كبيرا في تحضير مثل هذه الحلويات، واليوم تخرج إلى أي سوبر ماركت ستجد فيها أنواعا متعددة من كل أشكال الحلويات، وخصوصا التركية التي تمتلئ بها المتاجر اليوم». ويتابع: «رغم أن الحلويات التركية التي تتفنن مدينة غازي عنتاب التركية بصنعها، هي لذيذة ورائعة، ولكنها لا تضاهي البقلاوة التي كانت عمتي تصنعها لنا».

في زيارة إلى سوبر ماركت «نيو سيتي» بمدينة أربيل وجدنا عدة أنواع من البقلاوة التركية المعروضة هناك، وتزاحمها أنواع أخرى من الكليجات والكعك، بل كانت هناك أنواع عدة من الآيس كريمات مستوردة من تركيا والسعودية واليونان، وقال العامل المسؤول عن جناح الحلويات: «هذه الحلويات نستوردها من تركيا أو مناشئها المتعددة، وخصوصا البقلاوة التي يتزايد الطلب عليها، وتمتاز معظمها بالجودة لأنها تأتينا من مدينة غازي عنتاب التركية التي تشتهر بجودة بقلاوتها».

غزو الحلويات التركية للأسواق لم يمنع تسيّد بقية أنواع الحلويات التقليدية على الموائد، فما زال الكثير من العائلات يفضلون لقمة القاضي والتمر الحسناوي وغيرهما من أنواع التمور، ولكن اللافت هو فقدان التمر الأشرسي.

اليوم عندما تدخل أي متجر لبيع المواد الغذائية ستجد عشرات الأنواع من الرز، هذا يدعى «محمود» وذلك يسمى «أحمد»، وهذا شاي «غزال» وذاك «غزالين»... تعددت الأسماء والنوعيات وزاحمتها حتى الأسماء الكردية التي بدأ تجار كردستان يطلبون من مناشئ التصدير إطلاقها على نوعيات معينة حسب الطلب، ومعها تعددت أسماء ومناشئ الحلويات الرمضانية، ولكن تمثلا بقول الشاعر العربي، يبقى حنينا نحن جيل الستينات إلى الكليجة الأول.