مطبخ الأودي.. هندي بمواصفات شرق أوسطية

مأكولات قوامها اللبن والقشدة وليس البهار

كباب مع خبز النان مع البصل والليمون
TT

تحدثنا خلال رحلاتنا الأخيرة في عالم الطهي في الهند عن الطعام المغولي الشهير، وهذه المرة موعدنا مع طعام الأودي. اتخذ مطبخ الأودي اسمه من اسم منطقة أوده في الهند، والتي باتت تعرف حاليا باسم لكناو وتشبه طرق طهيه طريقة طهي الطعام في وسط آسيا والشرق الأوسط. ورغم تميز وتفرد هذا المطبخ، يبدو تأثير كشمير وحيدر آباد جليا به. الطهي على نار هادئة هو أهم ما يميز الطهي الأودي، بينما تحتوي أصناف الطعام الأساسية في المطبخ المغولي على الكثير من اللبن والقشدة والفواكه المجففة والبهارات الكثيرة التي تضفي عليها المذاق الحريف. على العكس من ذلك، لا يتم استخدام البهارات في طهي الطعام الأودي، بل القليل منها. ويكمن الاختلاف الأهم في طريقة إعداد الطعام من خلال الحفاظ على كل الفوائد الغذائية خلال الطهي. وتتضمن عملية الطهي، إضافة بعض المكونات نصف المطهية في أوان نحاسية، ثم إحكام إغلاق الإناء بالعجين، بينما يتم توفير نار خافتة على الفحم من خلال وضع بعض الفحم على الغطاء والبعض الآخر أسفله. سحر الطهي على نار هادئة يظهر في الرائحة الأخاذة وملمس الطعام. الطعام الأودي الحلو والغني والمليء بالدقيق صنع من أجل الملوك. ويشيع استخدام الزعفران والهال ودقيق جوزة الطيب وبذور الصنوبر في طهي الأصناف. إن الخطو نحو غرفة معيشة نواب جعفر مير عبد الله مثل دخول متحف للطهي متنوع. وتضم مجموعة من الأواني المزخرفة والآنية التقليدية والطاسات وصناديق أوراق الخنافس التي لا تقدر بثمن وتتصدر مكانا بارزا بجانب قطع الأثاث المغطاة بالأتربة وقماش الأثاث حائل اللون. قد تكون أيام مجد تلك الأشياء قد ولت، لكن لا يزال آل نواب يتعاملون مع الطعام بجدية.

هناك كلمة محددة لطريقة طهي كل صنف وقواعد نحوية ومفردات خاصة لكل مرحلة من الطهي بداية من نوع الفحم إلى مدى قوة النار. وهناك قواعد تنظيمية تحدد طريقة تقديم الطعام على الطاولة. في المطبخ الأودي الطهي وتناول الطعام ليس مجرد ملأ لمعدة خاوية، بل فن، مثلما أوضح لي نواب عبد الله، حيث قال: «إن أساس الأمر هو الأسلوب والفن والشعور بالرضا».

يعود أصل نواب أوده إلى رحالة فارسي يدعى سادات خان أطلق عليه نواب أوده عام 1732، عملت الأجيال التالية من إمبراطورية المغول على إرساء نمط حياة يتسم بالإسراف. وكانوا أحدث عائلة ملكية من بين كل الولايات الإسلامية في ذلك الوقت، وأول أثرياء القرن الثامن عشر وأول المستهترين ذوي الجيوب المليئة بالعملات الذهبية التي تبذر على أي شيء يشتهونه. ومع تراجع إمبراطورية المغول، بات النواب أقوى وأكثر اعتمادا على أنفسهم وباتت رغبتهم في تقديم نموذج معاكس لنموذج المغول وإثارة إعجاب البريطانيين أهم من إدارة شؤون المملكة. وكتب زائر إنجليزي لبلاط أوده: «الطريقة التي تعيش بها هذه المستعمرة النائية كانت مثيرة للدهشة، فهي أكثر ثراء وفخامة من كلكتا (عاصمة الهند آنذاك)».

في الوقت الذي كان فيه النواب يدللون أنفسهم ويبددون الساعات والأيام في الانغماس في الملذات، كان شعبهم يعاني شظف العيش. وكانوا يحبون الشعر والأغاني والرقص ويعشقون الحريم، وكانوا ينفقون أكثر أموالهم على الطعام. وكان يبلغ متوسط الإنفاق على الطعام في تلك الأيام 70 ألف روبية شهريا (وهو ما يعادل مليون روبية أو 20.835 دولار أميركي هذه الأيام). ولم يكن هذا يشمل رواتب فريق الطهاة الكبير الذين كانوا يغدقون عليهم العطايا ويتمتعون بحماية خلال فترة حكمهم. كان الطهاة ينقسمون إلى ثلاث فئات في المنزل (البورشيين) الذين يطهون الطعام بكميات كبيرة، و(الراكابداريين) الذين يرتدون ملابس الطهاة ويعدون الأطباق والوجبات المميزة الفريدة و(النانفوسيين) المسؤولين عن خبز الـ«روتي» وأنواع الخبز الأخرى. وكان هناك الكثير من «الراكابداريين» في المنزل، وكان كل منهم متخصصا في صنف أو مطبخ معين. وكان يلعب عدد كبير من المساعدين دورا في مطابخ العائلات المالكة، حيث كانوا يعاونون هؤلاء الطهاة الذين يحصلون على رواتب مرتفعة وينالون تقديرا كبيرا. وكان هناك رئيس للمطبخ يشرف عليهم ويتأكد من جودة الطعام وسعادة ورضا النواب وحاشيتهم.

وكان من المتعارف عليه توفير النواب أي نوع من مكونات الطعام بأي كمية يطلبها الطاهي دون أسئلة أو شكوك. من القصص المعروفة أن نواب غازي أود دين صفع وزيره بسبب تقليل الزبد الهندي الذي يستخدمه الطاهي في إعداد خبز «باراثس» المقلي. لم يكن النواب أحمق، حيث قال ما المشكلة في أن يسرق الطاهي بعض الزبد، فهو يجيد صنع الخبز. وأضاف: «أنت تسرق المملكة كلها ولا تفكر في ذلك». لقد كان البريطانيون يشعرون بالإعجاب تجاه بذخ المغول، لكنهم صعقوا من مدى بذخ النواب الذي تجاوز إسراف المغول بمراحل. وكتب موظف في شركة الهند الشرقية في مذكراته: «لديهم مائدة تنافس علية القوم في إنجلترا. هناك ثلاثة أطباق لكل وجبة. وكانت تطهى في طرف المائدة على يد طاه إنجليزي وفي الوسط على يد طاه هندي وفي الطرف الآخر على يد طاه فرنسي».

لا يكتمل توزيع الطعام يوميا في أوده إلا إذا كان هناك طبق الـ«كورما»، (اللحم المطهو على نار هادئة في المرق ذي القوام الغليظ)، وطبق الـ«سلان»، (مرق اللحم أو الخضار)، وطبق الـ«كيما»، (اللحم المفروم)، والكباب المشوي على الفحم والـ«بهوجا»، (الخضار المطهو)، والـ«دال»، (العدس) والـ«باسيندا»، (شرائح اللحم الناعم المقلية وغالبا ما تكون مغمورة في المرق) والأرز المطهو مع اللحم في شكل «بولاو» أو «شولاو»، (الأرز المقلي) أو يقدم وحده. وهناك أيضا أطباق متنوعة من خبز الـ«روتي». ومن أصناف الحلوى الـ«غولاتي»، (بودينغ الأرز)، والـ«كير»، (اللبن المحلى والمغلي مع الأرز ليصبح غليظ القوام)، والـ«شير برونج»، (الأرز الحلو المغلي في اللبن)، والـ«مظفار»، (الشعرية المقلية في الزبد الهندي والمزينة بالزعفران).

تغيرت القائمة حسب المواسم، ومع المهرجانات. ففي الشتاء، كانوا يفضلون البايا وكفتة اللحم والكلاوي، إلى جانب طيور مثل الحمام والسمان. أما في الربيع والصيف، فقد ضمنوا الأسماك في أنظمتهم الغذائية.

وأدت مجاعة حدثت في القرن الثامن عشر في الهند إلى ظهور مطبخ الأودي. وجاء ظهوره بمحض الصدفة، حينما عصف بولاية أوده الهندية كل من المجاعة ومعدل البطالة المرتفع.

أصدر حاكم الولاية وقتها، نواب آصف الدولة، مرسوما بتشييد بناء عملاق، هو بارا إمامبارا، الأمر الذي ترتب عليه خلق عدد هائل من الوظائف وتكلفت عملية بنائه أكثر من مليون جنيه. ولا يزال واحدا من أضخم الأبنية في لكناو الحديثة.

وثمة أسطورة تقول إنه كان يتم تدميره كل مساء ويعاد بناؤه في اليوم التالي، بحيث يتسنى توظيف المزيد من الأفراد. ولتغذية هذا الحشد من عمال البناء، كانت تملأ أواني طهي كبيرة بالأرز واللحوم والخضراوات والتوابل، ويتم إغلاقها بإحكام. وكان الفحم الساخن يوضع بالأعلى وتوقد النار أسفله، فيما كان الطهي ببطء يضمن توفر الطعام صباحا أو مساء. كانت النتيجة استثنائية، إذ حينما كان يتم فتح أواني الطهي، كانت تنبعث منها روائح عطرية أخاذة تجذب انتباه الجميع حتى أفراد الأسرة المالكة. وفي يوم ما في إحدى جولاته، اشتم نواب آصف الدولة رائحة ذكية منبعثة من أواني الطهي الكبيرة هذه، فأمر الطهاة الملكيين خاصته على الفور بتقديم هذا الطبق. وبعد بعض التعديل، بدأ يزين الطاولة. يعتبر الطهي بالبخار طريقة مفصلة تتمثل في طهي مزيج من المكونات على نار هادئة في وعاء عميق ضخم يغطى بالعجين لجعل المكونات تطهى في عصاراتها. وتسمح هذه العملية بإطلاق النكهة باعتدال من التوابل واللحم والاحتفاظ بروائحها الطبيعية. ويقال إن أفضل خشب يمكن استخدامه في طريقة الطهي على البخار هو خشب الشينار، الشجرة الكشميرية الشهيرة. وقد تطورت الأطباق التي يتم إعدادها باستخدام هذا الأسلوب في الطهي لتصبح واحدا من أفضل المطابخ من جنوب آسيا.

وإضافة إلى عملية طهي الطعام الرئيسية بأسلوب ولاية أوده، هناك أيضا عمليات أخرى مهمة مثل تمليح اللحوم لإنتاج مذاق شهي. ويعتبر ذلك هو الأسلوب المتبع على وجه التحديد مع الطعام المشوي الذي ربما يطهى في فرن من الطين.

ربما تنقع الأسماك واللحوم الحمراء والخضراوات والجبن في خثارة اللبن والتوابل. ويساعد هذا في تخفيف حدة مذاقها وتطرية قوامها، إضافة إلى إزالة أي روائح غير مرغوب فيها من اللحوم. وعادة ما كانت تطهى على التاوا، وهي شواية حديدية مسطحة مقارنة بتأثير المغلاي وتحمل دليلا على التأثير المحلي والملاءمة. ولا يكمن سر مطبخ الأودي الشهي في تنوعه فقط، وإنما أيضا في المكونات الأساسية المستخدمة فيه. يعتقد الناس في المنطقة أن الأغذية التي تطهى باتباع طريقة الطهي البطيء يكون مذاقها أشهى. ويشيع استخدام ورق الفويل والمواد العطرية في المطبخ الأودي في تزيين الأطباق وإعطائها رائحة ذكية.

ويكمن وجه الاختلاف بين الكباب في كل من مطبخ الأودي ومطبخ مغلاي في أنه بينما عادة ما يطهى النوع الأول على التاوا، يشوى النوع الأخير في فرن تنور (فرن فخاري). وهذا هو سر الاختلاف في النكهة.

ويعتبر كباب الغالاواتي أو الغالوتي، أحد أفضل أنواع الكباب التي تذوب في الفم، علامة مميزة في المطبخ الأودي. وتقول الأساطير إن كباب الغالاواتي قد ابتكر خصيصا لأجل نواب واجد علي شاه المسن الذي فقد أسنانه، لكنه لم يفقد حبه لوجبات اللحوم الشهية.

تعني كلمة «غالاواتي»، (يذوب في الفم)، وكان هذا الطبق مثاليا لنواب الأدرد الذي استمر في التمتع بمذاق هذا الطبق الفريد حتى آخر أيام عمره. في المعتاد، تستخدم البايا الخضراء في تطرية هذا النوع من الكباب. وبعد مزج اللحم بقليل من الأعشاب والتوابل المختارة (نادرا ما يكشف الطهاة عن ماهية هذه الأعشاب والتوابل على وجه التحديد)، يتم تشكيل اللحم المفروم على شكل كرات، ثم تقلى في السمن إلى أن يصبح لونها بنيا. ويقال إن الوصفة الأصلية التي رسمت البسمة على وجه نواب، مع كونه أدرد، وبثت لدى الكثيرين شعورا بالرضا، تتألف من أكثر من 100 نكهة عطرية.

ثمة كثير من القصص عن هذا النوع الشهير من الكباب الذي أخذ اسمه من قرية صغيرة اسمها كاكوري على أطراف لكناو.

وتقول واحدة من تلك القصص إن كباب كاكوري قد ابتكره حاكم كاكوري، سيد محمد حيدر كاظمي، الذي، نتيجة ضيقه من تعليق ضابط بريطاني على القوام الخشن للكباب الذي يتم تقديمه في وجبات الغداء، أمر طهاته الخبراء بابتكار نوع آخر من الكباب له قوام أكثر سلاسة يطهى على السيخ. وبعد عشرة أيام من البحث، قدموا نوعا من الكباب له قوام ناعم وكثير العصارة نال استحسان الضابط البريطاني نفسه الذي سبق وأن أثار ضيق النواب.