القضامة.. تائهة ما بين المكسرات والسكريات

ابتكرها الأتراك وتبناها أهل بلاد الشام

القضامة هي عبارة عن حمص يتحول إلى مكسرات
TT

«يا قضامة مغبرة ويا قضامة ناعمة... تجوزي لمن غبرها كنت حدو نايمة.. جبلي وجبلي يا ماما جبلي حلق الألماس ريتو يلبقلي..».

إنها تلك الأهزوجة الشامية التي لا بد أن سمعها واستمتع بها الكثير من مشاهدي ومتابعي المسلسلات الشامية، حيث تصدح بها النساء الدمشقيات وهن يحتفلن بزفاف ابنتهن أو جارتهن عندما يحين موعد زفافها لعريسها. والقضامة التي يمدحون بها العروس وجمالها ومن يعمل بالقضامة، تلك المكسرات والحلوى الشعبية البسيطة التي ابتكرها الأتراك قبل مئات السنين ونقلها الشوام في الفترة العثمانية، وكانت تعتبر حتى سنوات قليلة ماضية من أكثر الموالح (المكسرات) شيوعا وانتشارا في دمشق والمدن السورية، مع بذر عباد الشمس وبذر البطيخ الأحمر والفستق، قبل أن تنتشر الأنواع المختلفة من المكسرات في السوق السورية كالمكسرات اليابانية والصينية والكاجو وغيرها، كما انتشرت أنواع القضامة المغلفة بالقطر فتحولت إلى حلوى بسيطة أطلق عليها القضامة السكرية، حيث تقدم كضيافة في المناسبات السعيدة مع الملبّس والشوكولاته.

والقضامة هي في الأساس عبارة عن حبات الحمص المتحولة إلى مكسرات وحلوى بسيطة اشتهرت بتصنيعها عائلات دمشقية منذ عشرات السنين، حتى أخذ بعضها لقب القضماني، والتي لم تعد تعمل بها، في حين قامت عائلات دمشقية أخرى اشتهرت بتحضير المكسرات بتطوير طرق تحضير القضامة وتوسيع أشكالها وأنواعها، ومن هذه العائلات أسرة البيرقدار التي تمكن أحد أشهر أفرادها وهو (جميل البيرقدار) من تحقيق قفزة نوعية في تصنيع القضامة من خلال تحويلها من عمل يدوي إلى عمل آلي، حيث ابتكر قبل نحو 55 عاما آلة ضخمة تشبه لعبة الأخطبوط في مدن الملاهي وحلقات السيرك، وتختصر كل مراحل العمل اليدوي لتصنيع القضامة في هذه الآلة، وأطلق عليها العاملون في مجال القضامة والمكسرات معجزة المصلحة آنذاك، حيث سبق الأتراك في تصنيع القضامة آليا.

(أحمد البيرقدار) ابن مكتشف هذه الآلة الذي ورث عن أسرته محمصة عريقة في دمشق القديمة، أصر، عندما اتصلنا به لنعلمه بأننا سنزوره ليحدثنا عن القضامة وتصنيعها، على تأخير الموعد بضعة أيام، والسبب هو تكليفه حدادا دمشقيا لتصنيع نموذج مصغر للآلة التي ابتكرها والده في خمسينات القرن المنصرم، والتي لم تعد تعمل حاليا، وتحولت لخردة بسبب تكاليف صيانتها الكبيرة واعتماد مصنعي القضامة على العمل اليدوي أو الاعتماد على آلات مستوردة من تركيا، ولانحسار الطلب الكبير على شراء القضامة بسبب منافسة المكسرات الأخرى لها، حيث لم يعد العمل الآلي مجديا من الناحية الاقتصادية، في ورشته يضع النموذج المصغر للآلة على الطاولة، موضحا أنه لو كان هناك وقت أطول في تصنيعه لجعل النموذج يعمل كما هو حال الآلة الأم.. ويشرح (أبو أنس البيرقدار) لـ«الشرق الأوسط» طريقة تصنيع القضامة وأنواعها: «هناك من يعتقد أن العملية بسيطة جدا ولكن هل تصدق أن تحويل الحمص إلى قضامة عملية معقدة وطويلة ومجهدة وتحتاج لخبرة؟ سأبرهن لك ذلك»، يبتسم أبو أنس موضحا برهانه: «عملية تحويل الحمص إلى قضامة جاءت بعد تجارب كثيرة وهي تتم على الشكل التالي: نأتي بالحمص من مصادره، أي من المزارعين، ونقوم بعملية تنظيف له من مخلفات الحقل، وتبدأ بعد ذلك مراحل التحويل: المرحلة الأولى تتضمن تسخين الحمص حيث تتفكك القشور عن الحبات، وتسمى العملية التحميص، وكانت سابقا تتم على صاج كبير، حيث يبقى الحمص نحو عشر دقائق وهو يسخن، بعد ذلك تجمع الحبات المحمصة وتوضع في صناديق مستطيلة كبيرة وطويلة، يبلغ طولها مترين وعرضها كذلك، بارتفاع عشرة أمتار تسمى (كناديش)، ويبقى الحمص فوق بعضه في الكناديش نحو سبعة أيام، ضاغطا على بعضه حتى تتفكك القشور عن اللب الداخلي لحب الحمص المحمص، بعد ذلك يقوم العامل بفتح الكناديش وإفراغها من الحمص المحمص، حيث يقوم بنشره على الأرض ويبقيه على هذه الحال لمدة أسبوع أيضا مع تقليبه باستمرار، بحيث تأخذ الحبات قليلا من رطوبة الأرض، تبدأ بعدها المرحلة التالية وهي التسخين للمرة الثانية ونطلق عليها مرحلة (العيادة) وتعاد بعد التسخين للكناديش، وتبقى فيها أيضا لمدة أسبوع، وبعدها تقام من الكناديش وتوضع على الأرض أيضا لمدة أسبوع حتى تبرد وتنشف، لتنطلق المرحلة التالية وهي الغسيل، حيث يوضع في مصاف كبيرة وبعدها يفرد مرة جديدة في علب خشبية تسمى (سحاحير)، وتكون بشكل مكعب وبارتفاع متر ونصف المتر، ويبقى فيها حتى يجف تماما من الماء ليفرد مرة أخرى على الأرض، لتأتي المرحلة الأخيرة وهي عملية الفرز، حيث تفرز الحبات الصغيرة عن الكبيرة, تؤخذ هنا الحبات الكبيرة وتحمص على الصاج وتستخدم أداة تسمى المحرك، وهو عبارة عن علبة خشب بحجم اليدين، ويتم من خلاله فرك حبات الحمص حتى تقشر مرة ثانية، ولينتج معنا اللب الأخير وهو (القضامة)، ويمكن أن تبقى بعض مخلفات القشور على القضامة فتتم عملية تنقيتها، ويمكن أن تكسر بعضها بسبب عملية الفرك القوية بالمحرك، فتتم عملية فرزها، وفي المحصلة ينتج لدينا القضامة بشكلها التقليدي بعد مراحل تستغرق أكثر من شهر لتتحول حبات الحمص إلى قضامة». هنا يبتسم أبو أنس وهو يلاحظ علامات الدهشة على وجوهنا وكأنه يعرف ما يدور في ذهننا من سؤال، وهو هل هذه الحبات اللذيذة المذاق تحتاج كل هذا الجهد من تسخين وتجفيف وترطيب وتنظيف وتحميص وفرز وغير ذلك وكل هذا الوقت؟ ليجيب ضاحكا: «ألم أقل لك إن العملية معقدة وصعبة؟ هل اقتنعت بالبرهان الأكيد الذي شرحته لك؟».

بالتأكيد أقنعنا أبو أنس ولكن نسأله عن تلك الآلة التي صممها والده واختصرت الوقت والجهد في تحضير القضامة فيجيب شارحا من خلال النموذج أمامه: «تتماهى الآلة المبتكرة مع العمل اليدوي، فهناك القاعدة الكبيرة لها من المعدن، وهي تشبه الصاج في العمل اليدوي، وقسمها لحارات توضع فيها حبات الحمص مع وجود أدوات تشبه المكانس مصنعة من القش الطبيعي، ومفارك خشبية كبيرة تدور مع دوران الآلة، وتتم عملية تقليب الحمص بواسطة المقشات التي تكون طرية على الحمص ولا تؤذيه أو تكسره وتتحمل حرارة النار وحتى لا يحترق الحمص، وتتبع كل مراحل العمل اليدوي من تجفيف وتفريد، ومن ثم إعادتها إلى الآلة لتقوم المفارك الخشبية بفركها آليا دون استخدام اليد البشرية، ولتنجز المراحل جميعها وتنتج القضامة بجهد أقل ووقت أقصر، والمميز هنا أيضا أن الأداة التي يجب أن تعمل تنزل من عمود الآلة الذي يتوسط القاعدة، في حين ترتفع للأعلى الأداة غير المستخدمة ليتم تبادل الأدوار بين الأدوات حسب دورها وحاجتها (تشبه يدين واحدة ترتفع والأخرى تنخفض وهكذا دواليك)».

ولكن ما هي تلك الأنواع من القضامة التي نشاهدها معروضة في دكانه وفي دكاكين بيع المكسرات، والتي تغنى في الأعراس وتوصف بها العروس؟ يجيب أبو أنس: «النوع الرئيسي هو القضامة الصفراء، حيث تأخذ لون حبات الحمص وتكون غير مملحة، وهناك (القضامة المغبرة) وهي التي يضاف لها غبرة ملح الطعام، وهناك القضامة السكرية وتكون ذات مذاق حلو، حيث تحضر بواسطة طاسات خاصة لتلبيس السكر عليها, وهناك نوع آخر من القضامة من ابتكار عائلتنا وهي المدخنة، ونحضرها مع التوابل، بحيث تعطي القضامة نكهة خاصة لذيذة المذاق، ولها ذواقتها ومحبوها, وهناك نوع آخر وهو القضامة الملبسة بطبقة من دقيق القمح تسمى (كريك) ولها ذواقتها أيضا».

ومع مذاقها اللذيذ وتناولها كمكسرات وحلويات بسيطة لا ينسى أبو أنس أخيرا أن يعدد فوائد القضامة الصحية والغذائية، ومنها، كما يقول، أنها مفيدة في معالجة حرقة المعدة، حيث تجفف مفرزات العصارة المعدية الزائدة التي تسبب حموضة وحرقة.