محمد قريشي.. تلميذ تفوق على أستاذه

أجداد عائلة قريشي.. طهاة الملوك

الشيف محمد أشفق قريشي
TT

عندما نتحدث عن الطهاة من الهنود، سنجد أن اسم قبيلة قريشي ظل مرادفا للطعام الجيد لأكثر من 200 عام، ويعود نسبها إلى الطهاة الأسطوريين ومطابخ نواب الأودة وأباطرة المغول الهنود.

ويعود الفضل، بلا شك، في تميز المأكولات الهندية المغولية والأودية وشهرتها الكبيرة على مستوى العالم، إلى كبير الطهاة، محمد امتياز قريشي، 78 عاما، الذي يعد أقدم دعائم الطبخ الملكي الهندي، والذي بدأ رحلته الأبيقورية بالعمل في المطبخ الأودي التقليدي، ثم عمل على تحسين مهاراته في الطهي تحت إرشاد مجموعة من الطهاة المعروفين، الذين كانوا مسؤولين عن مطابخ ملوك الهند الملكيين.

وُلد قريشي عام 1934 لعائلة من الطهاة الأسطوريين لأباطرة المغول الذين حكموا الهند، وكان أمرا مفروغا منه أنه سوف يصبح في نهاية المطاف طاهيا مثل أسلافه، لكن عندما توفي والده، وهو بعدُ لا يزال شابا، عهدت والدته لأخيها، الذي كان واحدا من أفضل الطهاة، بمهمة تدريب ابنها، البالغ من العمر 7 سنوات. وقد بدأ قريشي، الذي كان لا يزال صبيا يقطن في مدينة لوكناو، التي تشتهر بثقافتها وآدابها المغولية، في التدريب على الطهي تحت إشراف عمه في أحد مطاعم الكباب والكاري الصغيرة، التي غالبا ما تكون موجودة في الأسواق المزدحمة، لكن سرعان ما بدأ الطالب في التفوق على أستاذه، وبدأ اسمه يصبح معروفا بعدما شرع في دراسة الوصفات العتيقة وتطوير وابتكار وصفات جديدة، معيدا، بمفرده تقريبا، إحياء الوصفات القديمة مرة أخرى.

وقال القريشي الكبير: «كان عمي هو معلمي الأول؛ حيث كان قد تعلم حرفة الطهي من جدي، وكان أجدادي قد قاموا، على مر السنين، بالطهي لعدد من الملوك المختلفين في لكناو، كما كنا نسافر للطهي في حفلات الزفاف الملكية؛ حيث كان الملوك يستعيرون طهاة بعضهم البعض، حتى يتمكنوا من عمل مآدب تحتوي على أطعمة من ممالك مختلفة».

كان امتياز قريشي مسؤولا عن طرح مفهوم «التندور» (الفرن الأرضي) وأسلوب الطهي «دوم بوخت» (الطهي في أوانٍ مغلقة على نار هادئة) عن طريق إجراء الأبحاث وإدخال التحسينات على وصفات الطعام المعروفة، فضلا عن ابتكار وصفات أصبحت الآن تتصدر قوائم الكثير من المطاعم الهندية بمختلف أنحاء العالم.

وبحسب أساطير، تم اكتشاف طريقة «دوم بوخت» حينما أصدر نواب آصف الدولة أوامره بأن يكون لبنّائي مسجد بارا إمام بارا الحق في الحصول على أنواع الأطعمة كافة على مدار اليوم، صباحا ومساء. ونظرا لأن الأطعمة المطهية تبرد، ولم يكن بإمكان الطهاة الاستمرار في إعداد الوجبات كل ساعة، توصل الطهاة في الشوارع إلى حل مبتكر؛ حيث وضعوا أواني ضخمة على نار هادئة وملأوها بالأرز واللحوم والخضراوات والتوابل. بعدها، أغلقوا أغطيتها بالعجين، ثم وضعوا فوقها قطعا من الفحم الساخن من أجل طهي الطعام ببطء وبقائه دافئا على مدار الساعة.

ويشير الشيف قريشي إلى أن الطهي الأودي «يعتمد على الدقة التامة». بعدها، سُرَّ نواب آصف الدولة، جدا، بإبداع طهاة الشوارع وبمذاق المنتج النهائي، لدرجة أنه أمر طهاته بانتهاج أسلوب الطهي الذي ابتكره طهاة الشوارع. وأضاف: «هذا هو الطعام الذي كان يتم تناوله في المآدب الملكية؛ لذلك فحتى التوابل كانت تضاف بطريقة لم تجعل الملك بحاجة إلى إزالة أجزاء من القرنفل أو الهال من فمه»، هذا ما يقوله الشيف قريشي، مشيرا إلى أنهم يضعون كل التوابل في حقيبة مصنوعة من قماش الموصلين ويقومون بطهي الطعام، وبعدها يتخلصون من التوابل.

جاءت انطلاقته الكبرى حينما أتت به سلسلة فنادق «آي تي سي»، وهي واحدة من كبريات سلاسل الفنادق في الهند، المرتبطة بشراكة مع مجموعة فنادق «شيراتون»، إلى دلهي، عاصمة الطعام ومركز السلطة في الهند، لافتتاح أكثر مشاريعها طموحا، مطعم «بخارى»، المتخصص في المطبخ الأودي، قادما من لكناو، في خطوة تسجل الامتزاج بين الثقافات الهندية والإسلامية ومطبخ تفضله الأسر المالكة. ويعتبر «بخارى» محطة معتادة بالنسبة للمسافرين العالمين، وقد أثنى عليه الزائرون، من بينهم مجموعة من المشاهير والدبلوماسيين وأصحاب المقام الرفيع من مختلف أنحاء العالم، وعلى رأسهم الرئيس الأميركي باراك أوباما.

وتقول الأسطورة: إن الطهاة الذين يعملون تحت قيادة قريشي الكبير بمطعم بخارى يطلبون منه مجرد لمس الأطعمة التي قاموا بإعدادها لتحسين جودة المذاق وضمان النجاح! واليوم، تباطأ أداء الطاهي، البالغ من العمر 78 عاما، بسبب ضعف صحته، لكن له قائمة مثيرة للإعجاب من العملاء والمعجبين: «لقد طهيت لجميع الشخصيات المهمة وجميع رؤساء الوزارات وجميع الرؤساء وكل أفراد سلالة نهرو».

إن أسرة قريشي موزعة بكل مطابخ فنادق الـ5 نجوم في الهند (عادة ما تكون أفضل مطابخ الهند هي تلك الموجودة داخل فنادق). أبناؤه الخمسة طهاة عملوا في فنادق كبيرة، ثم حملوا إرثهم من فنون الطهي الهندي إلى بقاع مختلفة من العالم، وقدموا للمئات والآلاف خلاصة خبرتهم في المطبخ الهندي.

تلمع عيناه بينما يتحدث عن أبنائه، خمسة أبناء وابنة، شاركهم أسرار الطهي التي اكتسبها بمشقة. يعمل كل فرد من ورثته بجد يوميا من أجل بناء مكانة مستقلة لأنفسهم في شركات متخصصة في خدمات توريد الأغذية ومطاعم خاصة بهم.

زوج ابنته من أكبر الطهاة بأسلوب «دوم بوخت» في نيودلهي، وبينما يتطلع امتياز إلى الفندق في مومباي، فإن أبناءه، اشتياق وإحسان وعثمان، يديرون مطاعم قريشي في مومباي. لكن ابنيه، أشفق وعرفان، ينتهجان أسلوبا مغايرا؛ فنظرا لثقافتهما وتلقيهما تدريبا يميل بدرجة أكبر إلى الطابع الرسمي في كلية متخصصة في خدمات توريد الأطعمة، تدرب الأخوان في تخصص المطبخ القاري، ويُدخلان الآن الأساليب التي تعلماها في طهيهما أطعمة الأودي التقليدية، وأيضا في إضفاء جانب أكثر تجريبية على ابتكاراتهما. لقد عمل كلاهما في الكثير من الفنادق عالية المستوى على مرِّ السنين وقد نقلا الخبرات التي ورثوها في مجال المطبخ الهندي إلى بقاع مختلفة من العالم؛ حيث أمتعا آلافا من محبي الأطعمة بخبرتهما البارعة في الطهي.

يتجلى سحر المطبخ القريشي في الشرق الأوسط في «زايكا» و«إنديغو» في أبوظبي، و«المروج روتانا» في الإمارات العربية المتحدة، و«قريشي» في فندق تشيلسي في دبي، و«قريشي للكباب والكاري» في دبي. وخلاله حديثه قال أشفق: «سوف يلحظ القريشيون وجوده في مناطق بالخليج العربي، مثل البحرين وعمان وجدة، في عام 2012، إضافة إلى سنغافورة وماليزيا. وقد افتتح أشفق، الذي يحظى بشهرة كبيرة على المستوى الدولي، سلسلة من المطاعم الناجحة بمختلف أنحاء العالم، من شنغهاي إلى واشنطن وبيرث في أستراليا.

ويقول أشفق، الذي يتنقل الآن بين دلهي ومومباي ومنطقة الخليج العربي، إنه في ما مضى، حينما بقي عدد كبير من أفراد القبيلة على مقربة من بعضهم البعض، كانت هناك وجبات غداء تقدم أيام الآحاد في إطار منافسات في مجال الطهي، أو هكذا تقول القصة. كان جميع الطهاة يقدمون ابتكاراتهم الخاصة من الأطعمة ويتلقون التقييمات «لم يتلق أي فرد من أسرتنا نقدا جوهريا»، هكذا يتحدث أشفق، مع أنه يقر بأنه عادة ما يكون أي طاهٍ، حتى لو كان ممتازا، بارعا في أمر واحد فقط. يضيف أشفق: «يمكنه الطهي مستخدما مكونات أخرى، ولن يكون بإمكان أي شخص غريب إدراك الفارق، لكن طاهيا آخر يمكنه أن يدرك أن هذا ليس هو موطن براعته».

كان الحظ حليف الإخوة قريشي؛ لأنهم كان لديهم أفضل معلم في العالم، والدهم الشيف امتياز قريشي، ذلك الطاهي الأسطوري «إن والدنا لم ينقل لنا فقط مهاراته في مجال الطهي، وإنما علمنا أيضا أن نتقبل تقييمات الزائرين بصدر رحب، حتى لو كانت سلبية»، يقول أشفق.

أجرى محمد أشفق قريشي – الشيف الذي تحول إلى خبير مأكولات – بحثا حول أدق الفروق في الأطعمة. وهو يعمل الآن مديرا إداريا بشركة «غراند كويزينز أوف إنديا»، الشركة الرائدة في مجال الاستشارات الغذائية. لقد صيغت أفكار الشركة بواسطته، كما أنها قد نظمت الكثير من مهرجانات الأطعمة في الهند ومختلف دول العالم، وقدمت استشارات للفنادق والمطاعم في مجال المطبخ التراثي. وقد كان هو وكبير الطهاة، محمد عرفان قريشي، يبتكران وجبات راقية للكثير من العملاء أصحاب المكانة الرفيعة، وفي مقدمتهم: ملك أبوظبي، والأسرة المالكة بكوالالمبور، وساسة آخرون معروفون، من بينهم رؤساء وزارات ورئيس الهند، إضافة إلى كثير من نجوم بوليوود، علاوة على إقامة حفلات زفاف.

يعتبر محمد عرفان قريشي خبيرا في الكورما والكباب والبرياني الهندي، وقد اكتسب مهاراته في مجال الطهي من والده خبير الطهي الشيف امتياز قريشي. ونظرا لعمله بفنادق «آي تي سي»، تمتع بميزة أن يكون جزءا من مطبخ الدوم الذي أعاد والده إحياءه. وقد عمل بمهرجانات في عدة دول – الولايات المتحدة وسويسرا وهونغ كونغ وبلجيكا وموريشيوس وسنغافورة وفيجي وكوالالمبور، إضافة إلى الكثير من المدن في الهند.

كذلك اشتهر طهاة الأودي بولعهم بأسرار الطهي والخلطات السرية التي لا يُطلعون أحدا عليها سوى أفراد أسرتهم، أو تكون معلومات يتم تناقلها همسا في مطابخ الهند.

لكن أشفق كان يعلن، بشكل واضح، عن دوره البارز في إعداد البرياني المثالي «ما السر؟»، هكذا يتساءل بشكل بلاغي.

«تأتي نسبة 70% من المذاق من المكونات الصحيحة. من ثم، تكون الخطوة الأولى هي معرفة طريقة تقطيع اللحوم جيدا. وتأتي نسبة 20% من اتباع الأسلوب الصحيح ونسبة 10% فقط من التوابل».

لم يحصل الشيف اشتياق قريشي، الابن الأكبر، على درجة من أي كلية متخصصة في إدارة الفنادق أو مدرسة طهي أو أي معهد تعليمي آخر، غير أنه نجح في طهي أفضل أنواع الكباب في الهند. ويقول الشيف اشتياق إن والده، الشيف محمد امتياز قريشي، كان معلمه الوحيد. تعلم علم التخليل والنقع في التوابل ودق اللحم باليد في سن الثالثة عشرة، تحت إشراف والده. ومنذ ذلك الحين لم يعد ينظر للوراء. اليوم، يملك الشيف اشتياق عددا من المطاعم تحت سيطرته: «كباب هات» و«كباب كورنر» و«تشوت نواب» و«كاكوري هاوس» على سبيل المثال لا الحصر.