رشفات من الوطن.. قضمات من الذاكرة

الطعام الذي يرافق المراسلين والصحافيين في رحلاتهم

الشوربة الجاهزة والشوكولاته والجبن من أكثر ما يصطحبه الصحافيون معهم في رحلاتهم الطويلة
TT

أول شتاء يمر على وجودي هنا كان باردا خاليا من الأحداث، وكان ذلك عام 2001 بعد سقوط نظام طالبان حيث كنت أعمل كمراسلة لستة أشهر تقريبا، ولم أكن أبدا مراسلة حربية من موقع القتال.

حزمت الأمتعة وأنا لا أعرف عن المكان الذي سأتوجه إليه غير أنه مدينة تعرضت للقصف ومنزل شديد البرودة. أسدت لي صحافية نصيحة قائلة: «يجب عليكِ إحضار أنواع جيدة من الحساء المجفف، إلى المكسرات، فلا يوجد في الأسواق هنا أي شيء»، على الرغم من أنني كنت أعاني حساسية من المكسرات ولم أحب الحساء المجفف كثيرا أيضا، أحضرت بضع عبوات «كنور» (وهي العلامة التجارية المتاحة في المكان الذي أقيم فيه) وبعض ألواح الشوكولاته الداكنة.

عندما وصلت وجدت منزلا من الإسمنت مزودا بسخانات تعمل بالكاد على تدفئة المكان من حولها وتتوقف حين يتوقف المولد الكهربائي عن العمل. وكانت الأرض متجمدة ومغطاة بالثلوج ويوجد فراغ تحت كل باب، وكان المطبخ صغيرا والخزانات مليئة بالحساء المجفف، يبدو أن كل مراسل جاء هنا قد أحضر بعضا منها، ويبدو أيضا أن حساء كريمة المشروم كان هو المفضل لهم. كما أحضروا برطمانات من الشاي والنسكافيه تكاد تكون منتهية الصلاحية، كما تحتوي الثلاجة على القليل من الخضراوات الذابلة المتعفنة ولحسن الحظ يوجد مياه معبأة في زجاجات، حيث إن مياه الصنبور قد امتلأت بالطفيليات.

في الليالي الأولى، كنت أعد لنفسي حساء وأنا أتذكر شعر توماس إليوت عن رحلة الملوك الثلاثة إلى بيت لحم، حيث تبدو الأبيات الأولى كأنها كتبت لشخص يرتجف في مكان غريب.

«أتى الشتاء وقد كان أسوأ توقيت لبدء رحلة/ يا لها من رحلة طويلة/ الطرق وعرة والطقس شديد السوء/ الشتاء شديد السكون»، كان هناك الكثير مما لم أفهمه بعد، في الشتاء الأول الذي قضيته هناك، عن أهمية أن تحمل ذكريات من وطنك عندما تذهب إلى أماكن الحروب. لم يكن الجزء الأسوأ هو القصف، بل الافتقار إلى الأمور المعتادة، إلى الشعور بأنك تستطيع توقع الأحداث أو الشعور بلذة الاعتياد.

عادة لا يوجد اختيارات بالنسبة للطعام، أو أي شيء آخر، فمناطق الحروب تقتصر على الضروريات فقط، حيث إن أغلب الطعام هنا بارد ومؤدّ للغرض، من النوع الذي يمكنك تعبئته في جيب أو إلقاؤه تحت مقعد السيارة: كألواح الشوكولاته والزبيب وعلبة من شرائح البطاطا مما يوفر سعرات حرارية ولكنه لا يعد طهيا بالتأكيد.

فهمت في العام الأول ما يبدو أنه يقسمني من الداخل فلقد أردت العودة والذهاب إلى ما هو أبعد، وجدتني أدفع بنفسي إلى ما هو أبعد من الحدود الجغرافية والعاطفية، ولكنني في الوقت نفسه أشعر بالحنين للوطن، وأشتاق إلى الوطن والطعام الذي أتناوله فيه. واكتشفت مع مرور الأشهر قدرتي على تخطي الصعاب فقط إن استطعت استرجاع لحظات قليلة من وطني، التي سوف تعيدني (في مخيلتي) إلى تلك الأوقات والأماكن ومن أحبهم.

يعتقد أغلب المراسلين في مناطق الحروب أن الوقوف عل الحافة يجعلهم يشعرون بالحياة سواء كان ذلك لأسباب تتعلق بالكمال أو لأسباب شخصية، لكن من النادر أن تقابل شخصا منهم لا يشتاق لوطنه.

يقوم المراسلون بتجميع أدوات ضرورية للدفاع عن أنفسهم، منها الأشياء التي لا يمكن الاستغناء عنها في السفر سواء في رحلة طويلة أو قصيرة. وعندما عدت إلى كابل في مارس (آذار) من العام الأول، كان الشتاء ما زال قارسا، ولكني في تلك المرة في يوم رحيلي أحضرت معي قهوة أصلية، مطحونة.

عندما أوقد الغلاية كل صباح وأستمع إلى صفيرها يذكرني ذلك بصفير الغلاية على الموقد بمنزل عائلتي في نيويورك، ويشعرني ذلك بوجود والدي حيث كان يملأ الغلاية بالقهوة في حرص بما يكفي لكوبين. وكان يتناول الكوب الأول سريعا وهو ما زال يرتدي المنامة ويقرأ الجريدة، أما الكوب الثاني فيغطيه بطبق الفنجان حتى يبدل ثيابه ويشربه قبل أن يأتي أول مريض، فقد كان والدي يعمل طبيبا نفسيا ويستقبل المرضى منذ السابعة صباحا. وكانت تمنحني القهوة الساخنة شعورا بأنني في وطني وأنا أقف في المطبخ المتسخ في كابل كل صباح.

وقد أحضرت معي أيضا، «كاكاو» غير محلى على الطريقة الألمانية، الذي يتسم بمذاق الشوكولاته الداكنة المرة. وفي أيام الشتاء القارس، كنت أسكب بعض الماء الساخن على مزيج من اللبن والكاكاو في قاع الكوب، ثم تظهر رغوة على السطح فأرى نفسي أنحني على موقد غاز وسط الجبال الخضراء الرطبة التي تميز الجزء الشمالي من ولاية نيويورك حيث يمتزج بخار الكاكاو بالهواء الطلق وتموجات السحب المنخفضة التي تمر عبر الأشجار. بذلك قد أكون انتقلت مع الرشفة الأولى من الكاكاو بعيدا عن كابل إلى المساحات الخضراء ووعد بالعودة مرة أخرى إلى الجبال التي قضيت بها طفولتي في مواسم الصيف.

مثلت مجلات الطهي إضافة لي بسبب شغفي بالطهي، لذلك بدأت مجلات الطهي تشغل حيزا في حقيبة سفري. كنت أحضر معي أحيانا نسخا قديمة من المجلات التي كنت أحدد الوصفات الجيدة بها باستخدام لاصق أصفر، أو تلك المجلات الحديثة التي تحتوى على وصفات طهي من مناطق لا أعرفها، مثل بواتو شارنت في فرنسا وساحل تايلاند. لقد كانت صور المأكولات البحرية مع الأرز ولحم الماعز مع السوفليه وسلطة اللاربجا من الورق المصقول لتلك المجلات تمثل النقيض تماما لما يمنحه لي مطبخي في كابل. لقد منحتني تلك المجلات وجبات خيالية على أمل أن تعود لي الحياة هادئة حيث أستطيع الاستمتاع بتناول عشائي دون الشعور بالذنب تجاه هؤلاء الذين لا يجدون لقمة العيش.

في رحلتي الثانية إلى كابل، عندما قمت بإفراغ حقيبة ظهري، وجدت، وسط جواربي الصوفية وكتاب للمبتدئين في تعلم اللغة الدارية كنت قد اشتريته قبل مغادرة وطني، قطعا من الجبن الباراميزان، فاستنتجت أن الجبن الرومي مناسب جدا في الرحلات، فبإمكانك التزود به صيفا أو شتاء في أي مكان في العالم دون أن يفسد.

لجبن الباراميزان الإيطالي مذاق خاص بالنسبة لي، فهو يحمل ذكرى ذلك العام الذي قضيته في إيطاليا واتخذت فيه قرارا بأن أصبح مراسلة خارج البلاد وتعلمت الطهي بالعيش مع مجموعة من طبقة النساء العاملات من كامبانيا. لقد كانوا يزرعون نبات إكليل الجبل والمريمية على عتبات نوافذهم، حتى إنى أكاد أشم نبات إكليل الجبل الذي لم أزرعه عندما كنت أبشر الجبن البارميزان في مطبخي في كابل.

كان العشاء الفاخر في مطبخي بكابل هو بعض الجبن الباراميزان مع قطعتين من شرائح الكوسة المسلوقة ذات اللون الباهت وبيضتين مخفوقتين، ثم أضيف الجبن وأسكب المزيج على الكوسة فأقوم بطهيها حتى يصبح المزيج سميكا. لقد كان مذاقها سائغا، فهو عجّة تصلح لرجل فقير، كما سوف أضيف عليها بعض شرائح من الطماطم، فالأفغان عباقرة في زراعة الطماطم، كل ذلك وأنا أمسك في يدي مجلة «غورميه» لأقرأ كيفية طهي الدجاج مع الصوص، وأشعر أني استعدت نشاطي.

لقد شغفت ببساطة التسوق للطهي الذي تفرضه مناطق الحروب، حيث كنت أشتري ما هو موجود بالسوق وأقوم بطهيه. على سبيل المثال تعلمت كيفية تطرية الدجاج الهزيل بالليمون والملح، فلم يكن الزبد متاحا دائما في أسواق كابل، بينما كنت أعاني من الحيرة في الاختيار بين أنواع الزبد المختلفة في باريس، حيث أقيم في أوقات الراحة حيث يوجد زبد من ولاية نورماندي الفرنسية وزبد من إقليم بريتاني جنوب غربي فرنسا، وزبد مصنوع من لبن البقر، الذي تغذى على المراعي الغنية بالبيتاكاروتين، وزبد بملح البحر وزبد حلو، وهناك زبد يسمى «بريزيدنت»، الذي لا بد أنه حسن المذاق طالما أطلق عليه هذا الاسم.

عندما تركت حقيبتي في المنزل لأذهب إلى المتجر، حين كنت آخر مرة في باريس، كنت شديدة الانبهار بالاختيارات المتاحة حتى إنني عدت للمنزل بالكوسة والبيض فقط، وهو ما يعد رائعا مقارنة بالسابق.

لست الوحيدة التي أحمل نفحات من وطني معي لمناطق النزاعات فهناك زميل يحضر شرائح الـ«كيميشى» وصوص الـ«ميزو» على الرغم من أنه ليس كوريا أو صينيا، بالنسبة له هو نوع من الهروب من اليخنة الدسمة المشهورة في آسيا الوسطى هنا والطعام المعتاد على طريقة الجيش الأميركي، كما كان ذلك ذكرى للأطباق والنكهات التي تطهوها زوجته، وبمثابة تعويذة من الوطن.

كان الكثير من المراسلين يحضرون معهم صوص الـ«تاباسكو» الحار لاعتقادهم أن الطعم الحار هو الذي يمنح أي شيء المذاق. وقابلت مصورا يعتقد أنه لا يستطيع أن يبدأ يومه دون تناول حبوب الـ«كينوا» على الإفطار ولا شيء غيرها. وبالتدريج مع كثرة خبرتي بالأماكن والحروب بدأت أشعر أن الطعام بالأماكن التي مزقتها الحروب قد أصبح جزءا من حياتي لا يمكنني الاستغناء عنه كالبارميزان والقهوة.

كان المشمش الأفغاني بمثابة اكتشاف، فهو ضخم بحجم الخوخ في الولايات المتحدة الأميركية، وإن كان أقل رطوبة منه، لكنه لين، فأصبح هو عطر الصيف مثلما كانت هناك فاكهة في العراق متوفرة فقط خلال الشتاء. لقد كان هناك نوع من الفاكهة يجمع بين الغريب فروت وفاكهة الآجلي والبرتقال الهندي ويسمى «سيندي»، هي أكثر جفافا من فاكهة الغريب، لكن ليست لاذعة بالقدر نفسه ومقسمة إلى شرائح أكبر وتتميز بحلاوة الطعم دون أن يخلو من الحدة.

لقد أردت أن أشارك الأطعمة المختلفة التي تميز مناطق الحرب التي غطيتها، لذا أحضرت معي صندوقا من المشمش لزوجي، الذي تربى في باحة بها أشجار المشمش، أملا أن يتأثر بتلك النفحة من الطبيعة التي قاومت ويلات الحرب. وقمت بشرائه في اليوم الذي يسبق رحلة العودة من مزارع بعمامة يقوم ببيعه وسط الجبال الشاهقة في شمال كابل، قائلا بفخر: «لقد قام ابني بقطف هذا المشمش هذا الصباح».

للأسف عندما وصلت إلى وطني كان قد تغير لون المشمش وبدأ يتخمر. لم يستطع هذا المشمش، الذي أنضجه شعاع الشمس وكان يبدو نافذة على عالم آخر من الشعر الفارسي والحياة شديدة الاختلاف عن حياتنا، تحمل الرحلة.

* خدمة «نيويورك تايمز»