«السفرطاس».. تقليد يكاد يختفي وصناعة تنقرض

كان فرصة للنساء للمنافسة وإثبات مهاراتهن في الطبخ وحبهن لأزواجهن

السفرطاس زوادة التجار والصيادين والمزارعين
TT

ربما تساءل أحدهم وهو يشاهد المسلسل السوري الاجتماعي «خلف الشمس» الذي عرض قبل نحو سنة، حيث الفنان بسام كوسا الشاب المعاق يحمل معه «السفرطاس» الذي تعبئه له والدته (منى واصف) كل يوم بطعام الغداء وهو ذاهب لدكان معلمه مصلّح الساعات ويحاول معلمه سرقة الطعام منه.. ربما تساءل المتفرج: هل ما زالت هذه الأدوات والتقاليد موجودة.. وهل ما زال هناك مصنعون للسفرطاس؟ والجواب نعم، لكن من يصنعه حاليا بشكل يدوي كحال معظم مفردات الشرقيات غاب، ولم يعد له وجود، حيث كان العديد من حرفيي دمشق يصنعونه بشكله الفاخر النحاسي والمطعم بالفضة في سوق النحاسين وفي حي الأمين بدمشق القديمة، فيما استمر حرفي واحد فقط في تصنيعه ولكن بشكل نصف يدوي وباستخدام معدن الألمنيوم وليس النحاس، وهو الدمشقي عدنان محمد حسون أبو عمر، الخمسيني العمر، والذي يؤكد أن ما يظهر من سفرطاسات في المسلسلات التلفزيونية ومنها «خلف الشمس» من تصنيع ورشته التي ورثها مع أشقائه عن والده الذي كان يصنع السفرطاسات منذ نصف قرن، إذ أسس في ما بعد الورشة في المنطقة الصناعية القديمة بدمشق بداية سبعينات القرن المنصرم، وما زالت تصنع السفرطاس مع أباريق الشاي والمياه وغيرها.

ويشرح أبو عمر لـ«الشرق الأوسط» طريقة تصنيع السفرطاس قائلا «ما زال هناك من يشتري السفرطاس، خاصة من المزارعين في الريف حيث يأخذونه معهم كزوادة أثناء مواسم الحصاد، ونصنعه حاليا ولكن ليس بكميات كبيرة كما كنا في السابق، حيث ننتج في العام الواحد نحو 200 قطعة سفرطاس فقط، وهو عادة يكون بعدة طبقات ولكن بقطر واحد وله حامل وقفل بحيث يتم من خلاله إحكام إقفال طبقاته المتعددة بحيث لا يفتح غطاء أي طبقة، مع إمكانية نزول الطعام منها أو امتزاجه مع بعضه داخل السفرطاس. وميزة السفرطاس المصنع من الألمنيوم الذي نصنعه حاليا أنه يمكن تسخين الطعام فيه بعكس السفرطاس المصنع من الاستانليس استيل أو من النحاس، لأنهما يتفاعلان مع الحمضيات أثناء التسخين».

وتصنيع السفرطاس صعب وليس سهلا كما قد يعتقد البعض، حيث يمر بمراحل كثيرة كما يوضح أبو عمر «ففي البداية نأتي بالألمنيوم الخام على شكل مساطر طويلة ونقوم بتحويلها على الآلة إلى قطع دائرية أو غير ذلك، لتبدأ مراحل العمل اليدوي فيه، حيث نوصل القطع بعضها ببعض ونعمل في ما بعد على تحضير حمّالة (يد) السفرطاس، وهي من الاستانليس استيل كما نصنع قفله، ونقوم بزخرفته من الخارج من خلال نقوش بالليزر بأشكال مختلفة، مثل نباتات أو أوراق أو طيور وغير ذلك، كما يمكن تلوينه إذا رغب الزبون في ذلك.. وكل ذلك يتم يدويا».

وإذا كان الحرفي الدمشقي محمد حسون مستمرا في محاولته للحفاظ على السفرطاس كتقليد تراثي جميل في حفظ الأطعمة، فإن هناك العديد من محلات بيع الشرقيات والأنتيكات في دمشق تعرض نماذج نادرة من السفرطاس المزخرفة والمفضضة والتي يزيد عمر بعضها على المائة عام، حيث تباع كقطع نفيسة للعرض في منازل وقصور الأثرياء إلى جانب التحف الشرقية والأرابيسك. والمتابع لهذه السفرطاسات التراثية يلاحظ كم هو ماهر وبارع من صنعها من الحرفيين الدمشقيين، حيث هناك نماذج من السفرطاسات بيضاوية الشكل بطبقاته الأربع، وهناك نوع يضم خمس طبقات وهو من النوع الفاخر، وهناك السفرطاسات الاسطوانية، وجميعها مزخرفة بشكل أنيق وجميل كما يربطها قفل طويل أنيق هو الآخر بحيث يزيدها جمالا، كما تعلوها حمالة متميزة في طريقة تصنيعها وزخرفتها.

والسفرطاس تسميته شعبية دارجة منذ عشرات السنين وتعني «وعاء السفر»، حيث يمتلئ بطعام الغداء، وهو عبارة عن وعاء معدني مؤلف من عدة طبقات محكمة الإغلاق يوضع في كل طبقة الطعام المعد في المنزل كزوادة لأصحاب الدكاكين والباعة الجائلين والعمال والصيادين، إذ توضع مثلا في طبقاته المتعددة الأكلات الدمشقية المنزلية المعروفة، ومنها مثلا في الطبقة الأولى الأرز المطبوخ، وفي الطبقة الثانية الوجبة المرافقة له كالشاكرية أو مرقة البطاطا أو الفاصولياء والبامياء وغيرها، وفي طبقة ثالثة يوضع اللبن وهو ضروري في وجبة الغداء أو يوضع الحساء في فصل الشتاء، فيما تمتلئ الطبقة الرابعة بالمقبلات التي تؤكل مع الوجبة كالمخللات والبصل الأخضر أو اليابس وغيرها.

ويروي سليم صافية أبو عصام، السبعيني الذي يمتلك محلا منذ خمسينات القرن المنصرم في سوق القيمرية القديم بدمشق حيث يبيع الأنتيكات، بكثير من الحنين كيف كانت للسفرطاس تقاليده الخاصة ومشاعر متميزة يعيشها المرء وهو يحمله بيده قادما من منزله إلى دكانه. ويقول سليم «كان معظم التجار وأصحاب الدكاكين في أسواق دمشق خاصة الشعبية والقديمة منها يفتحون دكانهم في الصباح ولا يغلقونه إلا في المساء، وبالتالي فلا بد لهم من تناول وجبة الغداء في دكانهم حيث كانت الزوجة تحضره لهم منذ الصباح وتضعه في السفرطاس، وهو عادة الوجبة نفسها التي تكون معدة للأسرة في المنزل. وكنّا وزملائي المجاورين لدكاني نتنافس على أنواع الوجبة التي يضمها السفرطاس وتنوعها، حيث إنه كلما كانت طبقات السفرطاس ممتلئة بالطعام دل ذلك على جهد الزوجة واهتمامها بطعام زوجها.. والنساء الدمشقيات بارعات في فن الطبخ، أليس كذلك؟ (يضحك أبو عصام)، فالمثل الشعبي يقول: لتعيش عيشة هنية.. تزوج امرأة شامية.. ولذلك كنت وجيراني من أصحاب الدكاكين في فترة الظهيرة نجتمع معا (كان عددنا أربعة) ونضع السفرطاس، وقد نتناول الطعام بشكل مشترك لنستكشف أي واحدة من زوجاتنا الأمهر في إعداد الطعام، ونتفق في النهاية على أن كل زوجاتنا ماهرات وستات بيوت».