«لو غافروش».. إمبراطورية فرنسية في قلب لندن

ميشال رو جونيور لـ: والدي أهداني مستقبلا وعبئا

TT

عندما افتتح الأخوان الفرنسيان ألبير وميشال رو مطعمها الفرنسي «لو غافروش» في شارع «لوير سلوان ستريت» في وسط لندن عام 1967 كانت الخطوة بمثابة تحد حقيقي للبريطانيين الذين وصفوها بالجرأة والجنون، ففي تلك الحقبة الزمنية لم تكن لندن كما نعرفها اليوم عاصمة الطعام بامتياز وتضم أكثر من 350 مطبخا وتجد في محلاتها جميع المكونات الغذائية الإثنية، لدرجة أنك لا تحتاج لجلب أي شيء من بلدك لتحضير أي طبق، ففي الستينات وبحسب ما يرويه من عاش في لندن حينها، كان يندر وجود زيت الزيتون في لندن إذ كان يباع في عبوات صغيرة تجدها في الصيدليات، على عكس المشهد الحالي، أرفف المتاجر الكبرى تضم كل ما يحلو لك من منتجات مستوردة ومحلية.

فقرار الأخوان «رو» جلب ثقافتهما ومطبخهما الفرنسي الراقي والغني إلى لندن كانت فعلا خطوة غير مسبوقة، فبريطانيا لا تشتهر بمطبخها وبالتالي لم يكن البريطانيون يشاطرون جيرانهم الفرنسيين والإيطاليين والإسبان ولعهم بالأكل وتفننهم بالمطبخ، وهذا يفسر سبب التعجب الذي دار حول افتتاح المطعم في فترة زمنية لم يكن لثقافة الأكل مكان فيها في بريطانيا وتحديدا في العاصمة لندن.

عندما انفصل الأخ الأكبر ألبير عن أخيه ميشال لأسباب تتعلق بوجهات نظر مختلفة في العمل، فألبير كان يطمح لتوسيع دائرة العمل بعدما أثبت المطعم نجاحه وسرق الأضواء في لندن وأصبح على كل شفة ولسان في الأوساط الراقية في لندن، في حين أن الأخ الأصغر ميشال لم يكن يريد توسيع العمل وكان رأيه هو الاكتفاء بنجاح المطعم والعمل على الحفاظ على نجمة ميشلان الأولى التي تلقاها المطعم بعد 7 أعوام من افتتاحه، وهكذا حصل الانفصال بشكل ودي بين الأخوين وانفرد ألبير بمطبخ «لو غافروش» في حين افتتح «ميشال مطعم «ووتر سايد إن» في منطقة براي القريبة من لندن ولاحقا أعطاه لابنه الطاهي الآن رو.

وعندما حانت ساعة التقاعد كان القرار صعبا جدا بالنسبة للشيف ألبير، الذي عشق مهنته التي تأثر بها من خلال مهارة والدته في المطبخ وكانت اللحظة التي قرر فيها تسليم زمام الأمور في «لو غافروش» لابنه ميشال الصغير الذي درس مهنة الطهي أيضا وتتلمذ على يد والده وعمه ميشال الكبير، وهذه اللحظة وصفها الشيف ميشال رو جونيور في مقابلة خاصة مع «الشرق الأوسط» في «لو غافروش» الذي انتقل إلى شارع «أبر بروك» في منطقة مايفير، قال إن هذه اللحظة كانت حاسمة فالمطعم كان بمثابة طفل لأبيه ألبير وكان من الصعب التخلي عنه، أما بالنسبة لرد فعله عندما طلب منه والده أخذ المسؤولية على عاتقه في المطعم يقول الشيف رو، «كنت متحمسا ولكن الفكرة كانت عبئا على منكبي، الاسم كبير، المسؤولية ضخمة واسم العائلة والأخوان ألبير وميشال بمثابة إرث، فلم يكن الأمر بالسهل».

هكذا استهل الشيف ميشال رو جونيور حديثه أثناء المقابلة في إحدى صباحيات لندن الصيفية الماطرة، إلا أن ديكور «لو غافروش» الفرنسي التقليدي يعبق بالدفء، وبعد تناول القهوة مع الشيف الذي لا تغيب عن ثغره الابتسامة (والقهوة رائعة المذاق) أخبرنا رو عن عالمه في المطبخ الذي لم تستطع الشهرة ولا والمال ولا حتى أضواء التلفزيون تسرقه منه، فميشال له إطلالات تلفزيونية كثيرة، وهو أحد أعضاء لجنة الحكم في البرنامج العالمي الناجح «ماستر شيف» الذي يسعى إلى اكتشاف المواهب في عالم الطهي، ويقول الشيف رو إنه يحب جدا المشاركة في هذا البرنامج لأنه يفتح الفرصة أمام الأجيال الصاعدة خاصة أن هناك توجها كبيرا حاليا إلى مهنة الطهي وقد يكون السبب هو اهتمام الناس أكثر بالأكل والمكونات وبالتالي مشاركته لا تنتهي في البرنامج فقط إنما تمتد إلى إعطاء الفرصة لبعض المشاركين في المسابقة للالتحاق بـ«رو سكولارشيب» وهي مؤسسة رو لتعليم الطهي ومقرها لندن، فيقول رو إن العائلة عريقة وهي إمبراطورية بحد ذاتها، تاريخها طويل في هذا المضمار، وهذا ما يشجع الجيل الجديد على الالتحاق بالمعهد واكتساب الخبرة، وفي بعض الأحيان يمنح بعض المنتسبين وظيفة في أحد مطاعمنا.

وعن المطبخ الفرنسي يقول رو إنه لا يزال من المطابخ المهمة في العالم ولا يرى عيبا في تطويره إلا أنه أبدى رأيه فيما يسمى بالمطبخ الجزيئي قائلا «هناك مبدعون أمثال تييري ماركس وهيستون بلومنثال وإفران أدريا عرفوا كيف يطوعون هذا النوع من الطهي، إلا أن هناك بعض المتطفلين على المهنة الذين يقومون باختراعات ليس منها جدوى، فما حاجة اختراع النكهة طالما هناك مكونات رائعة في مواسمها الأصلية». وعن المكونات يقول رو إنها الأهم، كما أن الموسم يؤثر جدا، وبالنسبة له فالخريف هو الفصل المفضل لديه من ناحية الطهي فالمطبخ في هذه الأيام يعبق برائحة لحم الطرائد ولحم الغزال، وبالحديث عن لائحة الطعام في «لو غافروش» يقول رو إنه أبقى على كثير من الأطباق التي ابتكرها والده وعمه وأجرى بعض التعديلات عليها ومن بين هذه الأطباق الخالدة طبق «سوفليه الجبن» ويقول رو كل ما عدله في هذا الطبق الرائع هو تخفيف نسبة استخدام الكريمة فيه وجعله أقل دسامة، ويضيف: «اليوم يسعى الزبون إلى تناول الطعام اللذيذ والخفيف»، لائحة الطعام في «لو غافروش» لا تزال تحافظ على أصالتها والسبب هو الزبائن الذين واظبوا على المجيء إلى المطعم منذ افتتاحه فمن الصعب تغيير الطعام بشكل جذري، ولكن هناك أطباقا جديدة يتعاون عليها فريق العمل. وعن سؤاله عما إذا كان لا يزال يقوم بالطهي بنفسه في المطبخ كان الرد مفاجئا: «نعم أنا أعمل في المطبخ 4 مرات في الأسبوع».

وكان لا بد من السؤال عما إذا كان يقوم بالطهي بالمنزل كان الجواب «كلا فزوجتي جيزيل طاهية بارعة ولكني أحب الطهي أثناء العطلة في منزلنا في فرنسا».

وبعيدا عن الأكل والمطبخ حدثنا رو عن ولعه بلعبة كرة القدم وعن فريقه المفضل مانشستر يونايتد، وكان لا بد من سؤاله عن الفريق الذي يحمسه في حال لعب مانشستر ضد أي فريق فرنسي وهنا هز رو رأسه ورسم على شفته ابتسامة شقية وقال «أشجع الفريق الفرنسي» فرو لديه الجنسيتان الفرنسية والبريطانية لأنه ولد في لندن عام 1961، فهو يعتبر نفسه بريطانيا، ولكن عندما يتعلق الأمر بكرة القدم والأكل فهو فرنسي.

ولأسباب لها علاقة بالاعتقاد بالنحس والطالع السيئ، المعروف عن المطاعم الراقية في العالم أنها تلغي دائما الطاولة رقم 13 منها لا أنه في «لو غافروش» طاولة رقمها (12 إي) فسألنا رو عن القصة وأجاب: نعم هذا صحيح ليس لدينا طاولة رقم 13 وذلك لأنه في بعض الأحيان يمتعض الزبون إذا ما عرف أن طاولته تحمل رقم الشؤم.

وعن الحديث عن العائلة تكلم رو عن فخره بابنته الوحيدة إميلي (20 عاما) التي تتخصص في مهنة الطهي حاليا في فرنسا وتتلمذت على يد أحد الطهاة المخضرمين هناك، يقول هنا إنه لم يؤثر على قرار ابنته أبدا إلا أنها كانت تعشق الطهي منذ نعومة أظافرها، فكانت تراقبه وتتبعه إلى المطبخ تتعلم وتحرق يديها ولا تأبه لأنها تعشق المطبخ، ويقول عنها إنها رائعة في الطبخ وماهرة جدا وينظرها مستقبل باهر بإذن الله.

وعن والده ألبير يقول إنه زبون دائم (ويضحك ضحكة عريضة) مضيفا: «والدي دائما هنا يأتي لتناول العشاء والغداء وينتقد، ويدخل المطبخ ويعطي ملاحظاته، لا يستطيع البقاء بعيدا عن الشيء الوحيد الذي عشقه في حياته».

وتحدث رو عن هواياته التي يأتي في مقدمتها تجميع وشراء كتب الطهي القديمة التي يعود تاريخ بعضها إلى القرن الثامن عشر، ويقول إنه من خلال قراءاته لهذه الكتب يرى بأن الطهي لم يتغير فهو لا يزال نفسه، إنما الكمية التي يتناولها الإنسان العصري اختلفت لا أكثر ولا أقل مع الاهتمام أكثر بالجانب الصحي. ومن هواياته الأخرى، المشاركة في الماراثون السنوي في لندن لتجميع التبرعات لمؤسسات خيرية تعنى بالأطفال، فيقول رو إنه لو لم يكن طاهيا لكان رياضيا محترفا لأنه يحب الرياضة ويعتني بلياقته البدنية دائما.

عن مطاعمه المفضلة في لندن يقول رو إن الخيار صعب في لندن فهي مليئة بالمطاعم الرائعة، ولكنه يفضل دائما زيارة مطعم زوما في نايتسبردج ومطعم غوردن رامسي في «هوسبيتال رود» وعندما يزور باريس يتوجه دائما إلى فندقه المفضل «بلازا أتينيه» ويتناول الطعام لدى مطعم الآن دوكاس.

مهنة الطهي، مهنة متطلبة جدا، وهذا ما يفسر سبب وجود عدد أكبر من الرجال الطهاة بالمقارنة مع السيدات، فساعات العمل طويلة وشاقة لذا نرى كثيرا من الطهاة يفقدون أعصابهم في المطبخ، كما هو الحال مع الشيف غوردن رامسي، وعن الموضوع يقول رو، إنه «يفقد أعصابه في بعض الأحيان»، ولكنه يكره نفسه عندما يكون بتلك الحالة، ويستدرك: «المهنة شاقة ونحن بشر ولكن عصبيتي الزائدة تزعجني».