مطعم اليونورا.. يحمل اسم شخصية بارزة في الجزيرة

سر المطبخ الإيطالي البحري مخبأ في جزيرة سردينيا

تارتار التونة الطازجة
TT

الأزمة الاقتصادية مستمرة في إيطاليا للعام الرابع على التوالي والمصانع تغلق أبوابها لكن المطاعم الجديدة تنبت بشكل متواصل وصادرات المواد الغذائية من إيطاليا في ارتفاع والسياحة (بترول إيطاليا) في تقدم، فمن يمكنه مقاومة إغراء الطعام الإيطالي اللذيذ، وأغلب برهان على ذلك المطعم الفاخر للأكل البحري في وسط روما القريب من مخبأ موسوليني الذي افتتح مؤخرا للزوار منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. صاحبه لم يختر اسما فكاهيا مثلما يفعلون هذه الأيام في روما مثل «الدب الصغير» أو «بيبي وأجبانه» أو «قهوة الدعاية» أو «قدنا أيها الراقص» أو «الحمار الذهبي».

اسم المطعم الكامل «اليونورا داربوريو» وقد يظن البعض أنها والدة صاحب المطعم أو عمته لكن من يبحث عن التاريخ يكتشف أنه اسم شخصية بارزة في جزيرة سردينيا وإيطاليا كافحت من أجل استقلال سردينيا في القرون الوسطى، فقد ولدت عام 1347 في مدينة أوريستانو بغرب الجزيرة قرب قرية فينيقية قديمة وعاشت 57 سنة ولها تمثال في وسط المدينة تحمل فيه وثيقة قانونية، وعملت قاضية شهيرة في تلك الحقبة ثم استلمت حكم الجزيرة بعد مقتل أخيها، ونرى صورتها اليوم على أغلب المنتجات الغذائية من سردينيا.

إذن المطعم يقدم مآكل جزيرة سردينيا المعروفة بالأسماك واللذائذ البحرية وجبن الغنم وحلويات اللوز والعسل. قابلت صاحب المطعم الشاب اللطيف فرانشسكو تورنو الذي لا يتجاوز الـ34 وهو من قرية قرب أوريستانو بسردينيا وسألته: كيف نجحت في جعل مطعمك من أحسن مطاعم الأكل البحري في العاصمة الإيطالية؟ أجاب دون تردد «الأكل الطازج وسمك البحر الأبيض المتوسط وشعور الزائر بالراحة في المطعم وأنه بين أهله». بدأ فرانشسكو في إدارة المطعم منذ 9 أعوام وقد افتتح المطعم عام 1997 حين بدأت روما في الاهتمام الجدي بمآكل البحر والمطابخ الإقليمية الإيطالية. يضيف فرانشسكو أنه عمل في قهوة ما زال والده يملكها في سردينيا وأحب المهنة لأنها تسمح له بالتعرف على الناس والاختلاط مع الزبائن ومقابلة أناس مهمين أحيانا. سألته: بعد نجاحك في روما، هل تعتقد أنه بإمكانك تكرار هذا النجاح في أماكن أخرى؟ أجاب مبتسما وبكل ثقة «نعم، وهدفي العمل في لندن أو نيويورك». وعرفت بعدها أن زوجته أميركية من مدينة بيتسبرغ وأنها تعشق الأكل الإيطالي. أما طبقه المفضل فهو من اختصاص سردينيا وهو بيض السمك المملح (مثل الكافيار) والمنشف على الطريقة التقليدية ويستخدم سمك التن أو سمك البوري (موجينه) لهذا الغرض ويسمى بوتارغا بالإيطالية الذي يضاف إلى المعجنات أو يؤكل مع المقبلات لفتح الشهية. وأصل الكلمة الإيطالية مأخوذ من العربية من كلمة «بطرخ» ويعتقد أن الفينيقيين من لبنان والساحل السوري الذين أقاموا في سردينيا قبل آلاف السنين هم من ابتكر هذا المنتج الذي يسمى باللهجة السردينية بوتاريغا واللفظ أقرب إلى العربية لأن العرب اشتهروا في المتوسط بحفظ الطعام مدة طويلة عبر تمليحه بطرق فنية محكمة.

قلت لفرانشسكو إنني لاحظت في لائحة الطعام عددا من الأسماك المتوسطية التي لا نجدها في الكثير من المطاعم الأخرى التي تقدم دوما سمك اللقز (سبيغولا أو برانزينو) مثل القاروص والابراميس والشبص فأجاب «هذه أسماك لذيذة والعارفون بتذوق الطعام يفضلونها، وعليك أن تسأل الشيف عنها». شاركنا الطاهي الماهر الذي يتقن تحضير الأطباق على الطريقة السردينية البسيطة إنما يعرف درجة الحرارة المثالية لتحضيرها والكثير من الأفكار المفيدة والحيل السرية لإبراز نكهة الطعام البحري وروائحه المشهية، وكانت المفاجأة أنه إقبال هلال وأصله من بنغلاديش وتجنس الجنسية الإيطالية بعد إقامته هنا لمدة 22 سنة اكتسب خلالها خبرة واسعة في طريقة الطهي الإيطالي وهو القادم من بلد معروف بتصديره للأسماك وفواكه البحر وبأطباقه الحارة الملتهبة ومن أشهرها «دوبياجا» حيث يخلطون القريدس مع السمك الأبيض الكبير مثل السلور أو السمك البلطي ويطبخونه على أسلوب الكاري مع السمن. ترك إقبال شهادته الجامعية في العلوم السياسية من جامعة العاصمة داكا وانكب على متابعة هوايته في تحضير الطعام الجيد بشكل احترافي وتحاشى استعمال البهارات والخلطات المعقدة ما عدا الفلفل الأسود أو الفلفل الحار الأحمر الحريف أحيانا. يسمي إقبال نفسه «بالدو» ليسهل على الطليان لفظ اسمه وزوجته من بنغلاديش أيضا ولديه منها فتاتان ولدتا في روما لذا فهو من أنصار ومشجعي فريق روما لكرة القدم. يختار يوميا أنواع الأسماك الطازجة التي يقدمها المطعم على الغذاء أو العشاء فبعضها يصلح للأكل نيئا كمقبل وبعضها منقوع في مزيج من عصير الليمون وزيت الزيتون البكر وبعضها يمكن شواؤه أو تحضيره بعدة أشكال. يقول إقبال «المهم اختيار السمكة بعناية والتأكد من أنها طازجة ومعرفة أفضل المصادر التي تشحنها إلى روما بالطائرة، فمثلا أفضل كركند ولانغوست يأتي من سردينيا أما جراد البحر والسلطعون فمن جزيرة صقلية، والقريدس الملوكي (الروبيان أو الجمبري) من مصادر أخرى.. المهم هو أن يكون المكون طازجا ولم يدخل حجرة التجميد في الثلاجة من سمك أو خضار فهذا هو سر نجاح المأكل في سردينيا من ناحية الطعم أو التغذية الصحية».

تحفل لائحة الطعام بعدد من الأطباق البحرية المميزة تبدأ بسمك السلمون المتبل بعصير البرتقال وقطعه والأصداف المطبوخة على البخار مع رشة من مسحوق البطرخ أو القريدس مع الكمأة (من نوع تارتوفو الأسود أو الأبيض الثمين) أما الطبق الأول فهناك الأرز المطبوخ مع القريدس (الربيان أو الجمبري) وزهر الكوسا (زوكيني) ومعجنات فيتوتشيني مع سمك الحبار (كالاماري) والزعفران ورافيولي الوسائد المحشوة بسمك اللقز مع النعناع الأخضر وسباغيتي البطرخ. والطبق الثاني على طريقة العشاء الإيطالية تشمل خيارات كثيرة من الأسماك الطازجة في ذلك اليوم وأشهرها الترس (رومبو) وسمك التن من نوع ريتشي أو ما يسمونه بالإنجليزية التن الفاخر من المتوسط ذي الذنب الأصفر (يلو تيل) ولا يبقي لمن يرغب اللحم سوى الفيليه. تشمل الحلويات بعض الأصناف التي تختص بها جزيرة سردينيا ويستعملون فيها اللوز المطحون والمعجون بالعسل على الطريقة المغربية، ومن يفضل الحلوى الخفيفة بعد تناول الأسماك فهناك شراب الليمون المثلج ويسمونه بالإيطالية: سوربيتو ولا شك أن أصل الكلمة مأخوذ عن العربية.

الجو والديكور في مطعم اليونورا أنيق ومريح دون تكلف والخدمة من النوع الممتاز الذي يشعرك بأنهم يعملون كمجموعة ويحبون استقبال الزبائن والقيام بخدمتهم وكأنهم أصدقاء مقربون ودون مبالغة أو ابتسامات مصطنعة. الفضل في حسن الإدارة والتفاهم بين الندل والطاهي وروح الفريق يعود لكفاءة فرانشسكو ودماثته واهتمامه بكل شاردة وواردة دون التدخل في عمل الآخرين. ثمن الوجبة الكاملة بالنسبة لنوعيتها الفريدة الراقية هو المفاجأة الثانية إذ لا تتجاوز 50 إلى 60 يوروها (62 – 70 دولارا) أي نحو نصف أسعار المطاعم البحرية الراقية في روما.

تجربتك مع الأكل السرديني قد تدعوك للتعرف على هذه الجزيرة الجميلة في وسط المتوسط التي مر عليها الغزاة وتركوا آثارهم وبصماتهم عليها من أيام الفينيقيين ثم الرومان ثم تنازعت عليها جمهورية جنوه البحرية وجمهورية بيزا الشهيرة ببرجها المائل وتبعهم العرب ثم الإسبان وأخيرا الطليان من عائلة سافوا التي وحدت إيطاليا منذ ما يزيد على 150 سنة. مضت عقود وبقيت سردينيا وأجبانها المشهورة بعيدة عن المقاطعات الأخرى ونسى الناس مباهج حياتها ومطبخها الخاص المميز وعاشت على الهامش حتى تمت إعادة اكتشافها مجددا منذ ما يربو على 40 سنة، وكان أحد المعجبين بها وبمطبخها كريم أغا خان الذي استثمر في القطاع السياحي فيها وجذب انتباه العالم إلى شواطئها الساحرة وأكلها البحري الرائع.

يتساءل أشهر الطهاة في روما وهو الألماني هاينز بيك في كتابه «العنصر السري» قائلا «ما هو الترف؟ تناول الطعام ضرورة لكن بالنسبة لمن يطبخ يوميا الترف هو أن يصبح تناول الطعام متعة». مطعم اليونورا يضمن لك هذه المتعة بكل تأكيد.