«الساحة».. قرية لبنانية في قلب الخرطوم

نكهة لبنان في السودان

TT

«ها هو أبو أحمد متدثر بعباءة قريته اللبنانية يأخذه الحنين ليبحر في عالمه، شراعه الهوية ومجدافاه حوار وتمازج بين الثقافة والتراث اللبناني من جهة والثقافات العربية والإسلامية المتعاقبة من جهة ثانية يقودانه لتحقيق الحلم الخيال، ها هو يشد الرحال من جديد يعيد ترتيب أدواته وتقنياته التي جمعها من فلول قريته المتناثرة أطلالا هنا وهناك ويوضبها مؤونة لساحة جديدة، ها هو يودع أحباءه وأخوته الذين جمعتهم «ساحته» في قطر بعد لبنان ويتأهب مسافرا تنفيذا للوعد الذي أخذه على نفسه بحملها رسالة أمانة وباقة تراثية منداة بعرق جبينه ينتشر شذاها في أنحاء المعمورة تحمله المسافات ويأخذه الترحال الى السودان، مرسية قواعدها شواهد معمارية تقارع تقلّب الأعوام ليجد فيها ضالته من تعب السفر ومشقة المسير ويخرج فيها ساحته، الساحة قرية لبنان التراثية..

لم يكن الكلام الشاعري اعلاه إلا جزءا من مقدمة جميلة مكتوبة في أول صفحة بقائمة الطعام الطريفة شكلا ومحتوى قدمها لنا النادل اللبناني بمطعم الساحة أو القرية اللبنانية التراثية التي شيّدت في زمن وجيز في قلب الخرطوم، كل شيء بها عتيق، لكنه جديد بفكرته بعيد عن الروتين خارج عن المألوف أو مما عرفت به المطاعم الحديثة وفروع المطاعم العالمية التي باتت تتنافس في السنوات الأخيرة في الخرطوم، كل له طريقته في جذب زبائنه ولكن كلها تتشابه في الغالب بمجاراة العصر بدءا من الديكور وحتى المنيو، لكن «الساحة» تميزت عنها بأنها نقلت تراث لبنان العريق الى السودان بالإضافة الى أطباقه الشهيرة!، ولبنان كان وجهة السودانيين الأولى للسياحة في الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، ولكن رياح الحروب وأعاصيرها أبعدت سفن السيّاح المحبين من الرسو على جنانها الخضراء وينابيعها وروابيها وأرزها، ولكن وبعد عقود وفي أرض النيل يلتقي «أبو أحمد» اللبناني المرتحل دوما حاملا بلده في قلبه بـ«محمد أحمد» المواطن السوداني ليتبادلا الودّ والمحبة.. المبنى من الخارج من الحجارة الصفراء المتراصة والشرفات الخشبية تطل من المبنى باللون البني الداكن، وما أن تدخل قدماك إلا ويتسلل صوت فيروز الشادي شامخا كالأرز الى أذنيك، قاعة المطعم مليئة بكل ما هو تراثي عتيق معبق كأنك تدخل بيتاً في قرية «عين كفاع»!، وسائد مكسوة بالنسيج التقليدي الداكن اللون، وسقف من أعمدة خشبية مربوطة بحبال، أوان نحاسية وخشبية معلقة على الحوائط، الإضاءة من لمبات نحاسية عتيقة الطراز متدلية من السقف، قطع جلدية مشبوكة على الأعمدة الخشبية، قائمة الطعام في ذاتها طريفة الشكل بقطع «خيش» وعود صغير على غطائها الخارجي، وبداخلها تنتثر الصور عن قرى لبنان، وتعريف بساحة الخرطوم اللبنانية التي لا تتردد كذلك في اقتباس الألقاب اللبنانية التقليدية، كـ سور الضيعة، أبواب الضيعة، ساحة الضيعة المكونة من سلاملك، عليه، عرزال، قهوة الضيعة، ولا ننسى الخان «الموتيل» في جزء آخر من القرية، ثم خيمة قرميد وعريشة وعين الضيعة والقبو وصالة القناطر. قائمة الطعام تفوح بالأطعمة اللبنانية الشهيرة التي غزت الموائد العربية والعالمية بنكهتها المتميزة، في المقبلات الباردة نجد المحمرة، لبنة بالثوم، صحن لبنة، حمص، تبولة، فتوش، بابا غنوج، متبل باذنجان، ورق عنب بالزيت، طاجن لوبيا بالزيت، مسقعة، حمص بيروتي، شنكليش!، والسلطات نجد سلطة الملفوف والزعتر، وغيرهما، والشوربات، كريم بالفطر، كريم بالدجاج، شوربة العدس وشوربة البصل وغيرها، الأمساك، أصباع سمك منيار وقريدس كوكتيل وسومون مدخن وقريدس بالفرن، اللحوم، مكستلاتة غنم مشوي وكفتة خشخاش، الصحن اليومي رز منسف لحمة، في الطيور، نصف فروج مسحب، فري بلدي وغيرها، الباستا، أرابيانا، فتوتشن، لازانيا ونوي وسباغتي نابولى، الصاج مناقيش نجد زعتر، لبنة كشك، جبنة حلوم أما الحلويات، فمفروكة، مغلي حلو، مهلبية، عيش السرايا، عثملية زنور الست، وصفوف، نمورة، مد تمر، مد جوز، مشبك وعوامة، جاط فواكه!. المشروبات هي وحدها التي تكون مألوفة لمرتادي المطعم السودانيين كالكركديه والغوافا «الجوافة»، والمانجا «المنقة»، والقريب فروت..

مشروع متميز بقلب الخرطوم، ومنذ افتتاحه في منتصف رمضان الماضي يتدفق الناس إليه ليتذوقوا الأطعمة اللبنانية على يد طهاة لبنانيين، فهل سنرى يوما «تكل» السودان (بضم التاء والكاف، تعني المطبخ التقليدي السوداني) بقلب بيروت، ليقدم لزواره اللبنانيين الملاح والويكة والعصيدة وأم رقيقة والكسرة ومديدة البلح وتقدم عصائر الحلو مر والشربوت والأبري والقنقليز والعرديب؟!..