«لا كابر».. قطعة من بغداد القديمة في قلب نيويورك

المطعم العراقي الوحيد في «التفاحة الكبيرة»

TT

يقيّم محرر الشؤون الدولية في مجلة «تايم» أباريسيم جوش، الذي كان لفترة طويلة مراسلا للشؤون الخارجية، مهمّاته حول العالم حسب نوعية الطعام الذي يُقدم له.

وهو يرى أن هونغ كونغ منطقة رائعة، بينما أصابته لندن بالإحباط. ويرى أن مدينة نيويورك، التي يعمل بها منذ شهر سبتمبر (أيلول) تشهد تطورا رائعا. يبحث جوش عن كل ما هو جديد في أي مكان بالمدينة، ولكنه يذهب باستمرار إلى مطعم «لا كابر» في طريق جانبي بين الشارع السابع والأربعين والثامن والأربعين، ولهذا المطعم خصوصية فهو يعيد السيد جوش بالذاكرة إلى المدينة التي عاش فيها لأكثر من أربع سنوات. يقول جوش، الذي كان رئيسا لمكتب مجلة «تايم» في بغداد: «إنه المطعم العراقي الوحيد في نيويورك، وهو أفضل من معظم المطاعم في بغداد».

وأصبح مطعم «لا كابر» منتدى للصحافيين والمسؤولين، الذين قضوا بعض الوقت في بغداد، كما يرتاده المغتربون العراقيون ومن حصلوا على الجنسية الأميركية. وأخيرا قام جوش مع عدد من أصدقائه العراقيين بزيارة هذا المطعم. في تلك الليلة كان هناك روّاد كثر، جلسوا جوار بعضهم بعضا على مائدتين كبيرتين، وكانت تقدم أطباق قوزي (لحم خروف وعليه لوز وعنب) ومعها نوع من السمك، وكان هناك من يدخن النرجيلة، وكانت هناك فرقة موسيقية (في أحد أركان المطعم) تغني بعض الأغاني، ولكن كان مستواها متواضعا جدا. قالت إحدى السيدات وهي تصفق على صوت الموسيقى: «يشبه بغداد». ولم توضح أنها لا تقصد بغداد اليوم، فلم تكن هناك حاجة. يوجد في مدينة نيويورك العديد من المطاعم، التي يذهب إليها الناس ليأكلوا الوجبات التي تقدم في بلادهم وليتحدثوا عن الحياة هناك. والمختلف في مطعم «لا كابر» هو أن المكان الذي يتحدثون عنه هو «عراق قبل الحرب» وليس «عراق اليوم». وكلمة «قبل الحرب» تعني لدى بعض الروّاد وضعا أحسن ولكنها تعني العكس بالنسبة لآخرين.

فقبل الحرب، كان من النادر أن يتم استيراد الطعام وكانت السلع المعلبة نوعا من الرفاهية. ولم يكن يستطيع العراقيون، قبل الحرب، البقاء خارج منازلهم بعد حلول الظلام خوفا على أنفسهم. شرب جوش وأصدقاؤه بعض العصائر الطازجة. قال أحدهم، قبل الحرب، كان هناك الكثير من المطاعم في بغداد مشهورة بتقديم العصائر، ولكن انتهى كل هذا الآن. افتتح فاروق منصور، وهو عراقي ولد في مدينة البصرة، مطعم «لا كابر» العام الماضي، وكان منصور قد انتقل إلى ميتشيغان عام 1978، وكان حينئذ يبلغ من العمر 23 عاما، ليعيش مع أخيه. وأصبح المطعم بعد ذلك من أشهر المطاعم في المنطقة التي يسكن فيها العرب الأميركيون في مدينة ديترويت. وبعد مدة قرر أن يجرب حظه في مانهاتن، وقد وجد أن المدينة بها مميزات غير موجودة في ميتشيغان، منها، كما يقول: «يمكنك أن تمشي في الشوارع خلال فصل الشتاء».

والقليل من سكان نيويورك يلاحظ أن «لا كابر» مطعم عراقي، فمعظم الناس يرون أن له طابعا شرق أوسطي وحسب. وفي الواقع، يجذب هذا المطعم مزيجا من الأعراق المختلفة، بينهم الكثير من العرب الأميركيين. ويشير منصور إلى أنه يعلق أعلام كل الدول الشرق أوسطية على حوائط المطعم، ومع هذا فالعلم العراقي، المعلق في أحد أركان المطعم، أكبر هذه الأعلام. ويضيف منصور: «نحب الكويتيين، وعندما يأتي الإيرانيون نأخذهم بالأحضان».

ولكن معظم رواد المطعم من العراق، وقد تعرف المدينة التي أتى منها هذا الشخص عن طريق اسمه، ومع هذا، لا توجد أية نعرات طائفية أو عرقية. كان رواد المطعم ودودين ولكن معظمهم طلب عدم ذكر أسمائهم في هذه المقالة خوفا على عائلاتهم. كان علي محمد زكي، أحد رفقاء جوش يعمل مزارعا ولكنه الآن مدير مكتب مجلة «تايم» في بغداد. ومثل كل المزارعين، لديه رأي جيد في الطعام. وقال زكي: «أول شيء يجب أن تعلمه عن الوجبة العراقية هو أنه يجب أن تكون هناك لحوم في كل الوجبات: الإفطار والغداء والعشاء. في بعض الدول العربية قد يأكلون اللحم مرتين في الأسبوع، ولكن في العراق يجب أن يكون اللحم موجودا في أي وجبة».

وقال مازحا إنه في يوم من الأيام، كان صحافي من الولايات المتحدة يتسوق في بغداد يريد شراء طعام الغداء، فاشترى جزرة واحدة. ضحك جوش. وأوضح زكي: «من العار في العراق أن تشتري جزرة واحدة. إذا كنت تريد طماطم، على سبيل المثال، فعليك أن تشتري كيلو أو اثنين أو خمسة. فقط المتسولون من يشترون واحدة. وإذا ذهبت إلى السوق لتشتري واحدة فقط، فسيعطونك إياها بلا مقابل».

ويقول منصور، تتم كل عملية الطبخ في العراق داخل البيت. ويأكل الفرد كثيرا حتى يذهب جوعه، ثم يزيد بعضا من الطعام. وتساءل جوش عن العادات الغذائية المرتبطة بمجتمعات معينة. فقال: «لماذا لا يبدو أسلوب الطهي العراقي متقدما، فهو مثل طعام الفلاحين، رغم أنني أحبه لأنه يناسب ما أريد. ولكن، من الناحية الفكرية، أتساءل لماذا هو على هذه الدرجة من البساطة».

وتحدث عن تاريخ الطبخ منذ أيام البابليين حتى العثمانيين وانتهاء بعهد صدام حسين، عندما أصبح بعض أصدقائه في تكريت الريفية هم النخبة في بغداد. وقال جوش: «أتت القرية إلى المدينة وفي فترة قصيرة باتت هي المسيطرة، فعندما تذهب إلى أي مطعم في بغداد تجدهم يقدمون طعاما جيدا».

وفي الوقت الحالي، لا يمكن التمييز بين أسلوب الطبخ العراقي وأسلوب الطبخ في الكثير من دول الشرق الأوسط: بابا غنوج ـ كباب ـ بقلاوة. ويضيف زكي ان الفلافل قد أصبحت معروفة في العراق، بعد أن ظهرت لأول مرة هناك في أواخر الستينات، عندما افتتح بعض الفلسطينيين محلا لبيع الفلافل في شارع الخيام، بجوار سينما مشهورة. وبعد منتصف الليل، امتلأ المطعم بأصوات الضحك، ووقف رجل ينشد بعض المقامات ومعه آلة موسيقية تشبه القانون، وفي شارع جانبي كانت هناك ثلاث فتيات يرقصن. وسرعان ما تعالت الهتافات في أرجاء المطعم. أحضر منصور شايا سريلانكيا وعليه حب الهال المطحون. وأثنى الروّاد على هذا الشاي وقالوا للنادل: «عاشت يدك». وقال جوش وهو يصفق على صوت الموسيقى: «لن يصدقك أحد في بغداد عندما تقول لهم إن هذا يحدث». وأضاف زكي: «لن يصدق أحد أن هناك في نيويورك فتيات يرقصن في الشارع على أصوات المقام في منتصف الليل».

* «خدمة نيويورك تايمز»