العنب.. طعم وفائدة

يعود أصله إلى جورجيا وانتشاره مع الفينيقيين والرومان

العنب الأسود أكثر فائدة للصحة («الشرق الأوسط»)
TT

يقال إن العنب او الكرمة، من اكثر الفاكهة انتشارا واستهلاكا في العالم. وان الناس يزرعون النبتة اللذيذة والمفيدة جدا للصحة في جميع انحاء العالم (باستثناء القطب المتجمد الجنوبي)، على نطاق واسع منذ اكثر من 6 آلاف سنة. ويكن الناس عادة احتراما كبيرا للنبتة المتنوعة والمدرارة، لدرجة انه تم تقديسها وتكريمها في العالم القديم من قبل الكثير من المجتمعات والشعوب. ففي أحد النقاشات الخاصة بالعنب في مدرسة «كليفلاند»، الاميركية، يقول رئيس المدرسة جوين فرانتز: «عندما يفكر معظم الناس في المآثر والمعالم الحضارية والبشرية، يفكرون في الأهرامات او حجارة ستون هينج، وكلاهما يعود الى 4 آلاف سنة، وهما دليلان قويان على المقدرة البشرية لبناء المعالم التي تتحدى الزمن. ولكن عندما نفكر احيانا بمثل هذه المآثر نفكر باشياء اقرب الينا مثل الكرمة». ومع هذا فإن الكرمة اقدم من الأهرامات، وكل المعالم الحجرية التي تركها البشر وراءهم، ويمكن العثور على آلاف الانواع منها حاليا. ويقول البعض تعبيرا عن قدم النبتة ان عمر العنب من عمر الإنسان او البشرية بكلام آخر.

وتقول آخر الابحاث الأثرية، ان العلماء عثروا على اول دليل على استخدام الكرمة او العنب على نطاق واسع ولغايات ومنتجات عدة، في جرار السيراميك في إحدى القرى الجورجية ومناطق البحر الاسود بشكل عام التي يعود تاريخها الى العصر الحجري الحديث (Neolithic)، أي الى اكثر من 6 آلاف سنة كما سبق وذكرنا. ومن هناك انتشر العنب جنوبا، باتجاه، تركيا وايران واذربيجان وارمينيا وغيرها. وقبل ذلك تم العثور على هذه الآثار في جرار الفخار في ايران. ويعود تاريخ هذه الجرار الى فترة ما بين عامي 5000 و5400 قبل الميلاد. الا ان الاستخدام العام للعنب في تلك الازمان كان حكرا على العنب البري او الانواع البرية، ومضت قرون طويلة قبل بدء استخدام الانواع العادية التي نعرفها الآن. ويعتقد بعض الخبراء ان ذلك يعود الى عام 3200 قبل الميلاد في آسيا الجنوبية، ومن هناك انتشر في بلاد ما بين النهرين (العراق) ومصر القديمة، حيث كان للعنب دور كبير في الاحتفالات الدينية والشعبية. وتقول المعلومات المتوفرة، ان الفراعنة في مصر القديمة رصدوا خمسة انواع من النبيذ ضمن المآكل والمشارب التي خصوا بها الاموات لما بعد الحياة، وانهم استخدموا واستغلوا النبيذ والخل الابيض والاحمر على حد سواء. ومن العراق انتشر العنب ايضا الى دول الشرق الاوسط، خصوصا الى المناطق الفينيقية، ومن هناك انتشر في جميع انحاء اوروبا الجنوبية بفضل الفينيقيين ومغامراتهم واسفارهم.

وعلى الرغم من معرفة تاريخ دخول الكرمة او العنب الى اليونان، الا انه كان معروفا جدا ايام الحضارة المينوية في جزيرة كريت، أي حوالي عام 2700 قبل الميلاد، وكان ولا يزال حتى يومنا هذا جزءا لا يتجزأ من تراث المآكل والمشارب الشعبية المرغوبة. ويقال إن انواع العنب المعروفة حاليا في اليونان، هي نفس الانواع التي تم استغلاها منذ ذلك الزمان. وتبع اهل اليونان المجتمعات القديمة في تخصيص إله للنبيذ، واختاروا شخصية ديونيسوس (Dionysus) لهذه الغاية.

اما الرومان فقد كانوا اول الشعوب التي استغلت الكرمة (اوراقها واغصانها وخشبها) ومشتقات ثمرة العنب من (نبيذ وخل وعصير ومربى وحبوب وزيت الحبوب)، بطرق واساليب علمية مدروسة ومتقنة. وقد قاموا بزراعته والعناية به وتأصيل انواعه على نطاق واسع وفي جميع انحاء الامبراطورية الرومانية، إذ كان محبوبا ومرغوبا بجميع اشكاله من قبل عامة الناس والنخبة الحاكمة والجيش. وكان اهل روما ايضا اول من وضع لوائح انواع العنب ومصادرها ومناشئها، ولم يتركوا موقعا في لبنان او في تونس او المغرب (موقع بناصة في منطقة سيدي قاسم شرق القنيطرة وشمال غربي العاصمة الرباط)، ومعظم الدول الاوروبية لم يستغلوه لزراعة النبتة الخيرة. كما كان اهل روما ايضا اول من صنع الخل والنبيذ ومشتقات العنب الأخرى وصدر على نطاق واسع، لذا بدأوا باستخدام البراميل والخابات والقوارير لحفظه، وقد اوجدوا تقنيات عملية عدة لقطافه وتجميعه كما يحدث الآن. ويعتبر الرومان الذين اتخذوا من مدينة بعلبك اللبنانية في سهل البقاع موقعا لمعبد باخوس (إله الخمر)، المرجع الاساسي الحديث للعنب ومشتقاته، وقد استخدم الرومان كما يبدو زيت الزيتون في القوارير لمنع تبخر الخل بدلا من استخدام سدادات الفلين. ويعتبر استخدام زيت الزيتون وسيلة انجع وافضل من الفلين لتحقيق تلك الغاية، وقد تمكن من حفظ محتويات القارورة في المانيا لمدة لا تقل عن 2000 سنة.

وعلى هذا الاساس يكون الرومان هم من ادخلوا العنب الى الجزيرة البريطانية قبل 2000 سنة. وقد ذكرت الكتب التاريخية وجود 38 معصرة ايام الوجود الروماني هناك.

وقد ورثت اوروبا ودولها المستقلة عن روما لاحقا تراث زراعة العنب واستغلاله على نطاق واسع، خصوصا تراث انتاج النبيذ والخل والادوية للكنيسة واديرتها والطبقات الحاكمة. واصبحت القارة الاوروبية حتى يومنا هذا اكبر منتج ومصدر لانواع العنب ومشتقاته حول العالم. ولا يزال اهل فرنسا والمانيا يخلطون عصير العنب والنبيذ مع البهارات والعسل والماء لتخفيف حدته. وقد وصل العنب الى اميركا، عبر المكتشفين والمستعمرين الاسبان منذ العام 1500، وظلت تعتبر انواعه اقل اهمية من الانواع الاوروبية حتى العام 1976، حيث انتصرت الانواع الاميركية (كاليفورنيا – تشيلي – الارجنتين – البيرو) على مثيلاتها الفرنسية وبشهادة الخبراء والمتذوقين المختصين. وتصل مساحة الاراضي المزروعة بالعنب في كاليفورنيا وحدها الى 700 الف هكتار تقريبا.

وحول الفوائد الصحية والطبية الجمة لنبتة العنب، ينقل الكثير من الناس عن كتاب لعبد المنعم الهادي الخاص بالعنب والرمان، ان العنب من أقدم النباتات التي عرفها الإنسان، فلقد عرفت أنواع منه منذ عهد نوح عليه السلام، وان فوائده لا تحصى ولا تعد. ويكفى أن نذكر ما قاله الإمام ابن قيم الجوزية عن العنب من أنه أفضل الفواكه وأكثرها منافع، فهو يؤكل رطبا ويابسا وأخضر ويانعاً، وهو فاكهة من الفواكه، وقوت من الأقوات، ودواء من الأدوية، وشراب من الأشربة. وأضاف الأنطاكي فقال: «العنب من أجود الفواكه غذاء، يسمن ويعالج الهزال، ويصفي الدم، وينظف القناة الهضمية، ونافع للأمراض المعدية والإمساك». ويقول احد محبي العنب في إحدى النصائح الجدية على إحدى مواقع الإنترنت العربية، انه «لا يخلو كتاب من كتب الطب الشعبي من عشرات الوصفات العلاجية التي يدخل ضمنها العنب».. ويقول المجربون: «إن تناول كوب من عصير العنب في الصباح قبل الإفطار وآخر في المساء قبل العشاء يساعد كثيراً على علاج مرضى البواسير وعسر الهضم وحصى الكلى والمرارة». وبناء على الكثير من المصادر العربية والاجنبية، فإن احتواء العنب وبذره على مادة (Ellagic acid) يمكنه من القضاء على المواد السرطانية في الجسم، وبذلك يمنع نمو السرطانات ويمنع تحول الخلايا الصحيحة إلى خلايا سرطانية». ويحمي العنب من السرطان ايضا بسبب احتوائه ايضا على مادة «السيلينيوم» (Selenium)، التي تعتبر من المواد المضادة للأكسدة والواقية من امراض الدم.

ويبدو ان العنب ايضا من النباتات التي تحمي القلب والاوعية الدموية بسبب احتواء بذوره على مادة الـ«رسفيراترول» (Resveratrol). ودلت بعض الأبحاث اليابانية الاخيرة ان هذه المادة تحمي من جفاف او نشفان الأوعية الدموية عند الحيوانات. ويبدو ان العنب الاسود كما دلت دراسات جامعة كورنوول البريطانية، من اكثر انواع العنب احتواء على المادة الممتازة والمفيدة. ولأنه ايضا يحتوي على الـ «بورون» (Boron)، يساعد المرأة للتغلب على المشاكل التي تتعرض لها بعد انقطاع الطمث. ومن المعروف ايضا ان العنب من الفاكهة الواقية من امراض القلب والاوعية الدموية بشكل عام. ويوصف ايضا لمعالجة الارق. وتقول إحدى الوصفات المتوفرة على شبكة الإنترنت، بضرورة تناول نصف كوب من عصير العنب وبعدها كوب من الماء الساخن قبل النوم بنصف ساعة، للتمتع بنوم هادئ ومريح. ولأن بعض النساء يستخدمن عصير العنب كسائل او كريم لترطيب الوجه، ينصح بمسح الوجه بالقطن المشبع بعصير العنب الطازج وتركه مبللا بهذا العصير لمدة عشر دقائق قبل غسل الوجه بماء فاتر.