الخبز.. روح المائدة السردينية وسر تنوعها

سردينيا تتقاسم الرغيف مع الشرق الأوسط

الخبز السرديني باشكال فنية منوعة تتطلب مهارة عالية جداً
TT

بغض النظر عن روعة جزيرة سردينيا الايطالية الجغرافية والسياحية، فهناك عامل جذب قد يكون الأهم بالنسبة لزوارها، وهو الأكل، والموائد الغنية التي تهيمن عليها رائحة الخبز الطازج بمختلف أنواعه وأشكاله، فالأكل السرديني غني بالنكهات ويعتمد في معظمه على الأسماك والسلطات والخبز والحلوى، كما أن المطبخ السرديني يشبه إلى حد كبير مطبخ بلاد الشام، وقد يكون السبب وراء ذلك هو تاريخ سردينيا وتعاقب الحضارات عليها وتأثير الفينيقيين الواضح على جميع تفاصيل معالمها.

من أشهر ما تقدمه سردينيا هو الخبز، فزراعة القمح بدأت منذ آلاف السنين ولا تزال منتشرة في الجزيرة حتى اليوم، وفي الماضي تولى الرومان مهمة زراعة وبيع القمح إلى إيطاليا بعد أن كان يقوم الرقيق بغسل الحبوب وتنظيفها لتكون جاهزة للبيع والتصدير إلى الخارج.

وكان يتم طحن القمح بواسطة حجر كبير الحجم تم العثور عليه مؤخرا في مدينة سينيس بالقرب من ثاروس ويعود تاريخه إلى أيام الرومان.

وكانت تتم تصفية الدقيق في ماكينة كانت تعرف باسم «إزتارازوس» ومن خلالها كان يتم تقييم نوعية الدقيق، وبحسب النوعية كان يصنع الخبز، لذا ترى بأن الخبز يأخذ أشكالا ونكهات مختلفة في الجزيرة، فهناك أنواع تصنع في الأفراح والمناسبات الخاصة وأخرى تصنع للطبقة الأقل ثراء وأخرى للأثرياء وهذا يعتمد على نوعية الدقيق وطريقة الصنع.

وإذا نظرنا إلى تاريخ تصنيع الخبز في الجزيرة لوجدنا بأنه لا يزال قائما وحافظ السردينيون على التراث والعادات نفسها فأكل الخبز في سردينيا نوع من أنواع التقاليد والعادات ويدخل ضمن التراث الوطني السرديني الذي يختلف بعض الشيء عن التقليد الايطالي، ويعتبر نوع خبز «سو بيستوشو» الأقدم وهو مصنع من الماء والدقيق فقط. وقد يكون الاسم مشتقا من اسم واحد من أقدم الخبازين في الجزيرة كان يدعى «بيستوريس» وهذا النوع من الخبز ناشف وأشبه بالخبز الذي يتناوله أهالي منطقة الشرق الأوسط وبالغالب تجده يستعمل لوضع الطعام عليه في الطبق، وكان يصنع هذا النوع من الخبز في الماضي في وسط سردينيا، لكن اليوم من الممكن إيجاده في كافة المناطق السردينية، وتختلف طريقة تصنيعه من منطقة لأخرى وهذا من شأنه التأثير على لونه وشكله وتماسكه.

وبالنسبة لخبز «كارتا دا موزيكا» فهو رقيق جدا ومقرمش وشكله مدور، السر في نكهة هذا النوع من الخبز هو وضعه في فرن الحطب المصنوع من الحجارة مرتين متتاليتين. ويعرف هذا الخبز أيضا باسم «باني كوراساو». ويتم تناول هذا الخبز مع زيت الزيتون .

وفي مرحلة لاحقة بدأ السردينيون بصناعة خبز «سبياناتا» وهذا النوع أكثر طراوة وسماكة ومع الوقت راح حجم هذا الحجم يكبر وأصبح شكله دائريا أكثر.

أما بالنسبة لخبز «سيفراكسيو» فهو أكبر من حيث الحجم وتختلف طريقة تصنيعه من منطقة إلى أخرى وهو أشبه بخبز «موديزوسو» وكلاهما يتميز بطرف مقرمش ووسط طري جدا.

ويعتبر خبز «كوكوي» أمير الخبز الأبيض الذي تتطور مع الزمن ليصبح خبز المناسبات الخاصة وهو أقرب إلى البسكويت والحلوى نسبة لطعمه ومذاقه ولونه. يتميز هذا النوع من الخبز بخلطة سميكة جدا ويتطلب تصنيعه مهارة عالية لأنه يصنع بأشكال هندسية، وكلما صغر حجمه كلما كان ذلك دليلا على مهارة صانعه ويعتبر خبز «كوكوي» رفيق السردينيين في الأفراح والأتراح وخبز المناسبات الخاصة.

ويطلق على هذا الخبز أيضا اسم «خبز الروح» Su Pani De"is animas لأنه يقدم في الاحتفالات الدينية لا سيما في الكنائس في نهاية القداس.

ويتغير شكل هذا الخبز مع تنوع المناسبات، ففي الأفراح يصنع الخبز على شكل أكاليل صغيرة مدورة تزينها عصافير وفي فترة عيد الفصح يأخذ الخبز شكل القلب وفي وسطه بيضة وفي مناسبات أخرى يأخذ الخبز أشكالا غريبة وعجيبة بعض الشيء. في بادئ الأمر كان الخبز هو القوت الرئيسي لأهالي سردينيا وهذا يترجم سبب تنوع الخبز من حيث المذاق والشكل، وبعدها اكتشف السردينيون موارد غذائية أخرى في الجزيرة مثل الزيتون والبطاطس والاجبان، واللحوم.

وفي القرن السابع عشر بدأت تظهر أطباق جديدة في الجزيرة ترتكز على الخبز والدقيق مع إضافة مكونات أخرى مثل الطماطم، فاشتهر حينها طبق عرف باسم «سا براتزيرا» وهو أشبه بكيك مالح وراح الخبازون يتفننون بتصنيع الخبز وإضافة عدة مكونات أخرى مثل الخضار (الباذنجان والزيتون..) وتطور تصنيع الخبز إلى أن ظهر نوع جديد يشبه إلى حد كبير ما يعرف اليوم بالبيتزا عرف باسم «باناري» ويمكن تناول هذا النوع مع أي نوع حشوة تريدها.

الدقيق هو الرفيق الأول والأخير للسردينيين منذ القدم، فيتم إنتاجه بكميات كبيرة جدا ويتم تصديره إلى الخارج وبنفس الوقت يعتمد عليه أهالي الجزيرة في تصنيع عدة أطباق رئيسية إلى جانب الخبز كالمعكرونة التي تعرف باسم «إز مالوريدوس» وهذا النوع هو أشبه بالكسكس يتم تصنيعه من خلال مزج الدقيق والماء والقيام بحركة دائرية مستمرة للحصول على حبات صغيرة يكبر حجمها كلما قمنا بحركة التقليب.

وبالنسبة لخبز «ماديزوسو» Maddizzoso فهو يعتمد على عناصر بسيطة جدا في تصنيعه هي الماء والدقيق والبكتيريا، وميزة هذا الخبز أنه يكون صالحا للأكل على مدى 20 يوما وتستغرق عملية صنعه وتخميره 96 ساعة متواصلة وعندما يعتق الخبز يحولونه إلى نوع من الكيك، وفكرته ذكية تعتمد على البكتيريا التي تطفو على سطح العجين بعد ساعات متواصلة من الوضع في مكان مغلق، وبعدها تؤخذ كمية صغيرة من «البكتيريا» ويتم مزجها مع خليط الدقيق والماء فقط، وهناك تقليد قديم توارثته الأجيال السردينية مفاده أن هذا النوع من العجين يعتبر بمثابة خير وبركة للعرسان الجدد، فتنص العادات على إعطاء العروس قطعة من خليط البكتيريا تقوم بعدها بخلطه بدورها بالدقيق والماء لصنع الخبز بنفسها وهكذا دواليك.

ويمكن تصنيع هذا النوع من الخبز بعدة أشكال كبيرة وصغيرة، وهو يعتبر من أهم المقبلات التي تسبق تقديمها الأطباق الرئيسية التي تعتمد على الأسماك والمعكرونة والخضار من دون أن ننسى زيت الزيتون الطبيعي الذي يعتبر رفيق المائدة الايطالية الدائم.

الخبز السرديني بسطور: «سو بيستوشو» Su Pistoccu خبز الرعاة المقرمش يعتبر هذا النوع من الخبز المفضل لدى رعاة الماشية، فهو يحضر من خلال مزج النخالة والقليل من الدقيق وميزته أنه يدوم وقتا طويلا، وهذا الشيء يتناسب مع نمط حياة الرعاة الرحالة الذين يتنقلون في المراعي لأيام عديدة مع ماشيتهم بعيدا عن منازلهم، واليوم يتم تصنيع هذا الخبز بطريقة مختلفة قليلا تعتمد على مزج زهرة الدقيق مع السميد، وشكله مستطيل ومقرمش جدا.

«سيافراكسو» Civraxiu الأكثر شهرة: هذا النوع من الخبز كبير الحجم، يتمتع بجوانب مقرمشة وسميكة غير أن وسطه طري وأبيض اللون.

زاد الطلب عليه في السنوات القليلة الماضية، وسر نكهته تكمن في طعم النار فيه لأنه يخبز في مواقد الحطب، طعمه لذيذ جدا لا يمكن مقارنته بأي نوع آخر من الخبز المخبوز في الأفران الحديثة.

يعتبر من أشهر أنواع الخبز في عاصمة سردينيا كالياري وفي منطقة سانلوري وميديو كامبيدانو الصغيرة.

«سبياناتا» Spianata طري ويتفاعل مع الرطوبة: مصنوع من نوعين من الدقيق، النوع الأول يستعمل في الخبز والنوع الثاني يستعمل لتحضير الحلوى، وهو أشبه بالخبز اللبناني أو «البيتا»، شكله مدور وطري جدا، يجب حفظه في مكان جاف وإلا فيتأثر بالرطوبة مما يؤدي إلى تعفنه.

هذا الخبز كان في الماضي القوت الرئيسي للمزارعين، إنما اليوم أخذ منحى آخر وأصبح نوعا جديدا من الساندويتشات السريعة، يلف بعد وضع الأجبان والخضار على أنواعها فيه تماما مثلما يلف الرغيف العربي في ساندويتشات الأجبان أو الفلافل وغيرها في بلداننا العربية.

«برداكسيوس» Perdaxius المفضل لدى أهالي كالياري: خبز مقرمش جدا وليس سميكا، حجمه متوسط، تغطيه طبقة من الدقيق الناعم، أطلق الاسم عليه تيمنا بمدينة صغيرة تقع ما بين ناركاو وكاربونيا. ازداد إنتاجه في السنوات الأخيرة وأصبح من بين أكثر أنواع الخبز المفضلة لدى أهالي مدينة كالياري العاصمة.

«كوكوي» Coccoi خبز المناسبات : خبز مصنع من الدقيق وهو يأتي من منطقة تعرف باسم «أوريستانو» ويمكن تحضيره أيضا من خلال الاستعاضة عن الدقيق بالنخالة، تصنيعه فن يحدد مهارة كل خباز، ويتنافس الخبازون في سردينيا على تصنيعه بأشكال مختلفة تجسد مختلف المناسبات السعيدة والحزينة.

في يومنا الحاضر لم يعد تناول هذا النوع من المعجنات مقتصرا على المناسبات، بل أصبحت متوفرة في جميع المحلات على مدى أيام السنة. وإنما يحرص السردينيون على تقديمه في فترة عيد الفصح ويقدم على شكل بيضة في الوسط تقدم للأطفال والصغار.