الإمبراطور «بك».. مايسترو الأطباق الإيطالية في عاصمة الرومان

ألماني يعتلي عرش المطبخ الإيطالي

أطباق بك لذيذة المذاق ثرية الزخارف
TT

من كان يتصور أن الإيطاليين سيتوجون على عرش مطبخهم العزيز إلى نفوسهم ومدعاة فخرهم ألمانياً قدم إليهم من بافاريا بجنوب ألمانيا، ولد في قرية مجاورة لمسقط رأس بابا الفاتيكان الألماني الحالي بنيديكتوس السادس عشر، وكأن عهد الإمبراطورية الرومانية المقدسة قد عاد من جديد. مقر قيادة الشيف الأكبر «هاينز بك» Beck يقع في مطعم راق باهظ الثمن «لا بيرغولا» La Pergola (أي العريشة بالإيطالية) بفندق الهيلتون في روما ويطل على المدينة الجميلة من هضبة عالية ترى أمامها مقر دولة الفاتيكان وكنيسة القديس مار بطرس الكاثوليكية الشهيرة بقبتها التي صممها الفنان والمعماري الكبير مايكل أنغلو وجعلها أشد القباب سيطرة على ما حولها، وتراها من شرفة المطعم كأنك جالس في مخبأ باذخ تشاهد منه آثار الرومان والصروح الكلاسيكية ومتاحف عصر النهضة وحدائق عائلات روما الأرستقراطية النبيلة وعمارات العاصمة الإيطالية الحديثة المنسجمة مع أبنيتها القديمة.

إذا تصفحت أي دليل للمطاعم الإيطالية والعالمية تجد أن بك ينجح بمعدل 9,5 على 10 أي أعلى درجة بامتياز، فالعشاء في مطعمه تجربة رائعة لفن حُسن الأكل ولكل ذواقة يمتاز بحس مرهف في الطعام أو الشراب، لأن أسلوبه في تحضير الأطباق المبتكرة يعكس اهتمامه بالبحث والتقصي عن الوصفات الجديدة التي تستلهم المطبخ الإيطالي ولا تقلده حرفيا، فهو بحاثة من الطراز الأول وفنان أصيل يمزج مواد الغذاء مثل الرسام الموهوب الذي يختار ألوان لوحته بعناية ويخلطها حسب ذوقه الجمالي الخاص. الطبق الذي تتناوله في مطعم «لا بيرغولا» هو خلاصة تجارب بك وطريقته الحرفية وتوازن مكوناته، مما يجعل طعمه لذيذ المذاق خفيف التركيب سهل الهضم، وطريقة تقديمه أنيقة الأسلوب ثرية الزخارف وكأنها لوحة منسجمة بألوانها الطبيعية ولمساتها الفنية.

حين قابلت بك قبل العشاء لفت انتباهي أنه يغير ألوان غطاء طاولات المطعم وألوان الزهور من حين لآخر، فاللون الأبيض كان سائدا قبل أشهر لكنه تحول الآن إلى برتقالي، فلما سألته أجاب «كنت أحب الفن التشكيلي في صغري ورغبت أن أصبح رساما، لكن والدي منعني من ذلك لأن خطته بالنسبة لمستقبلي كانت تعني أن أتابع عمل العائلة في تجارة الجواهر والحلي في قريتي بمقاطعة بافاريا، وكان ردي أنني لا أريد أن أكون صائغا فدرست فن الطهي وعملت كطباخ في برلين، ثم جئت إلى إيطاليا عام 1994 وكان عمري ثلاثين سنة وبدأت العمل وكنت أظن أنني أطهو طعاما إيطاليا» وتابع قائلا «لكنني اكتشفت أنه لا وجود للمطبخ الإيطالي بل هناك 22 مطبخا إيطاليا بسبب تنوع البلد واختلاف أقاليمه فمطبخ إقليم بيمونته وإقليم فال داوستا في الشمال الغربي متأثر بالمطبخ الفرنسي والسويسري ومطبخ مقاطعة التو اديجيه (التيرول) في الشمال الشرقي يشبه المطبخ النمساوي أما مطبخ جزيرة صقلية في الجنوب، فالعرب تركوا بصماتهم فيه ومن بعدهم الإسبان والفرنسيون». وأردف «البعض يظن أن الأكل في إيطاليا يعني المعجنات والمعكرونة والبيتزا لكن التنوع هنا يفوق كل الحدود، فمطبخ روما يختلف كليا عن مطبخ مقاطعة فينيتو وعاصمتها فينيسيا (البندقية) وحتى مقاطعة توسكانا (وعاصمتها فلورنسا) القريبة نسبيا تختار مكونات مختلفة. في روما يحبون طهي أعضاء البقر والغنم الداخلية أما فلورنسا فمشهورة باللحم المشوي والطرائد ونابولي في الجنوب تحب الأسماك والأصداف البحرية».

تجاذب الحديث مع بك ممتع فهو ضليع في اختصاصه ومتواضع في سلوكه رغم شهرته، والود واللطف صفة أساسية تلازمه وله ميل إلى الأبحاث العلمية والطبية المتعلقة بالغذاء وضرورة التغذية الصحية، ويقول في هذا المضمار «شاركت في الأسبوع الماضي في مؤتمر طبي حول مرض السكري ودار النقاش حول الأكل والحمية المناسبة لتجنب المرض، وقد بدأ اهتمامي بالناحية الصحية منذ أن توسعت في البحث عن أسباب ارتفاع ضغط الدم والمأكولات التي تزيده وتقود إلى أمراض القلب، وتعلمت أن شواء اللحم على الفحم مضر لأن الدهن المذاب فوق النار والدخان المنبعث من المشواة قد يسبب السرطان.. بالطبع إذا أكلنا الكبد فقد يرتفع مستوى الكولسترول الضار، لكن الكبد مفيد ومليء بعنصر الحديد لذا علينا عدم المبالغة في الحيطة فيما لو أكلنا نوعا ما مرة واحدة في كل فصل»، ويضيف «أصبحت أطباقي الآن تمتاز ـ بالإضافة إلى لذة الطعم ـ باعتنائها بالناحية الصحية» ويكمل مازحا «الإيطاليون يحسون في داخلهم بأن 75 في المائة من أطباقي هي إيطالية أصيلة مع تعديلات مرغوبة، فأكل البحر المتوسط صحي وذوقهم الجيد يدعوهم إلى التفكير بأن الأكل ليس حشي المعدة مثلما كانت الحال أيام الجوع بعد الحرب العالمية الثانية، فالطهي الصحي لا يهدف إلى إشباع الجسم وإتخامه». وتابع بك بأسلوبه الهادئ وكأنه ناقد فني «بدأت حركة المطبخ الحديث منذ الستينات وكأنها ثورة على المطبخ التقليدي الثقيل المغموس بالدهن والزبدة، لكنها تطرفت في منحاها واقتصر الصحن على جزرتين مسلوقتين مثلما تحول الرسم من تصوير الطبيعة والوجوه إلى خطوط وبقع لونية في المدارس الحديثة، لذا أنصح الطهاة الجدد بأن يبدأوا عملهم بإتقان الأطباق التقليدية المعروفة ثم الانتقال إلى الابتكار والحداثة».

تتشعب نشاطات بك هذه الأيام بين روما ومطعم فندق الهيلتون في مدينة بسكارا الساحلية بشرق إيطاليا وأضاف العاصمة البريطانية أخيرا، حيث يزورها بانتظام منذ سبتمبر (أيلول) الماضي لأنه مدير لفريق من الطهاة يوجههم كمستشار طعامي، ويعمل في لندن مع الشيف الإيطالي ماسيميليانو بلاسونه الذي تعاون مع بك سابقا لمدة 11 سنة، أما تلامذة ومعاوني بك في روما فقد افتتحوا مطاعمهم الخاصة الناجحة وعلى رأسها مطعم باسم إحدى الأوبرات الإيطالية المشهورة حول المهرج «بالياتشو» Il Pagliaccio الذي مضت خمس سنوات على افتتاحه قرب ساحة نافونا الشهيرة بوسط المدينة وأصبح يحتل مكانا قريبا من مطعم لا بيرغولا حسب درجات تصنيف المطاعم الجيدة في روما. أما المطعم المفضل لبك ولزوجته الصقلية ـ خارج مطعمه ـ فيقع في منطقة باريولي الراقية في العاصمة الإيطالية ويسمى «مولتو» Molto (أي كثيرا بالإيطالية) ويعمل فيه أحد معاونيه السابقين وهو الشيف باولو كاسترينيانو منذ افتتاحه قبل ثلاث سنوات الذي يعتبر أن أهم نصيحة قدمها بك له هي التأكد من جودة ونوعية المكونات المطلوبة لطهي أي طبق. تشمل نشاطات بك أيضا تعاونه مع شركة كبيرة معروفة بجودتها في إنتاج المعجنات وهي «دي تشيكو» فقد طرحت في الأسواق أخيرا عددا من الصلصات الإيطالية المحبوبة عالميا مثل الطماطم (البندورة) مع الحبق أو الريحان وصلصة الطماطم الغاضبة (أرابياتا) مع الفلفل الأحمر الحار وصلصة الطماطم مع اللحم (راغو). يتميز بك بدقته، لذا يصر على أن وصفته في تحضير الصلصة يجب أن تتماشى مع نوعية السباغيتي أو المعكرونة ودرجة جودتها، مما دعاه للتعاون مع شركة «دي تشيكو» De Cecco بالذات لأنها لا تعتمد على الدعاية والترويج، بل على الخاصية الرفيعة مما شجعه على إضافة توقيعه على مرطبانات الصلصة الزجاجية كضمانة للجودة.

يقر بك بأن صنع الحلوى اختصاص مختلف عن طهي الطعام، لذا اختار شيف باتيسيري في مطعم لا بيرغولا من باليرمو عاصمة جزيرة صقلية «حيث يأخذون قضية الحلويات مأخذا جديا تحت تأثير المطبخ العربي عليهم تاريخيا»، ويضيف قائلا «تحاول زوجتي تيريزا تحضير بعض الأطباق الصقلية في دارنا لكن الأمر صعب فالمكونات الضرورية غير موجودة في روما مثل الشمّر البري». يتحاشى بك تحضير المآدب ويفضل أن يستمتع زبائنه بالطعام على مائدة حميمة وأضواء خافتة وجو مريح، لكنه قام باستثناء غير اعتيادي عندما طلب منه السفير السعودي السابق في روما (والسفير الحالي في لندن) الأمير محمد بن نواف تعهد مأدبة خاصة قبل سنوات. توقف بك عن الحوار، فقد جاءه أحد مساعديه بصحن سيقدمه في العشاء تلك الليلة لكي يتفحصه، وبدأ بك في تذوقه وتحليل ميزاته ومدى التوازن بين المكونات والأعشاب العطرية وكمية الثوم والبصل المستعملة، فسمعة المطعم تتقرر في تلك اللحظة الحاسمة وكذلك رضا الزبائن، والشيف الأكبر في غاية الصرامة من هذه الناحية. بعد دقائق من المضغ أشار بيده موافقا وكأنه قائد فرقة موسيقية يضبط الإيقاع الصحيح ودرجة السرعة في العزف، فهو أولا وأخيرا فنان في أعماقه يمارس الطهي كحرفة ممتعة بولع وشغف رغم المتاعب والإجهاد، وهذا سر المهنة والنجاح.

* مطعم لا بيرغولا

* مطعم فخم مترف تمتاز أطباقه بطعم قوي لذيذ وتوازن ملموس يجمع بين العراقة والابتكار بفضل الشيف هاينز بك الذي يتقن تحضير المأكولات الإيطالية والأوروبية واليابانية على طريقته الخاصة في انسجام المتناقضات واستخراج النكهة. جو المطعم الصغير في الطابق الأخير لفندق الهيلتون كافالاييري يمتاز بالسحر والدفء في ديكور فني مريح، والخدمة فيه ممتازة فهي في غاية المهنية والكفاءة والتهذيب والروح الإنسانية المتواضعة. من أشهر أطباقه وأكثرها شعبية سباغيتي الكاربونارا باللحم والبيض إنما بالطريقة غير التقليدية أي إدخال المكونات على عكس تسلسل الخطوات التقليدية، والأرز بسمك التونة الطازج مع صلصة الصويا على الطريقة اليابانية، والهومار أو اللانغوست (جراد البحر) مع الأرز، والقريدس أو الربيان (الجمبري) مع الكافيار والخيار وفاكهة البابايا الاستوائية، وفيليه لحم العجل المنقوعة باللبن (الزبادي) والمشمش، ومن الحلويات البوظة أو الجيلاتي مع حب الهال ومجموعة من قطع الكاتو المتنوعة الشهية في علبة صغيرة من ثمانية أدراج. متوسط سعر الوجبة لشخص واحد 150 ــ 170 يورو (أي 225 ــ 255 دولارا).

La Pergola del Cavalieri Hilton Via Cadlolo, 101 – Tel. 06 35092152 – Roma