قصة أربعة مطاعم لبنانية في مدن فرنسية

المطبخ المتوسطي الذي يثير الصراع على الهوية والملكية

الرمان والبقدونس للزينة ومذاق إضافي (تصوير: حاتم عويضة)
TT

يمتاز مطعم «نورا» اللبناني في باريس بأنه من أوائل المطاعم اللبنانية في فرنسا، فقد تأسس المطعم عام 1980 في باريس بمبادرة من الأخوين نادر وجان بول بو أنطون اللذين هاجرا مع من هاجر من لبنان في بداية سنوات الحرب اللبنانية. وبفضل مثابرة نادرة المثال على المهنة وتطويرها، فإن سلسلة مطاعم «نورا باريس» و«نورا لندن» تعتبر من أشهر المطاعم على مستوى العالم. وهي المثابرة التي تجسدها مهارة اللبناني ودأبه الخاص وقدرته في فن التجارة والأعمال. وعلى الرغم من أن باريس تمتلئ اليوم بعدد لا بأس به من المطاعم اللبنانية، فإن مطعم «نورا» يبقى الأفضل من بينها. ومع ذلك، فإنه لم يخرج إلى المدن الأخرى باستثناء لندن، في الوقت الذي أصبحت فيه المدن الفرنسية الأخرى، صغيرها وكبيرها، مكانا لمطاعم لبنانية أخرى خارج دائرة الضوء، وهي اليوم كثيرة مقارنة بما كان عليه الحال قبل عقدين أو ثلاثة. مع ذلك، ورغم شهرة هذا المطعم، ومعرفة الأوروبيين له، فإن المنافسة بين إسرائيل ولبنان على ملكية بعض الأطباق، ومنها الحمص والفلافل والتبولة، عادت وبقوة في الفترة الأخيرة حتى وصلت إلى موسوعة «غينيس» العالمية. وذلك عودة إلى ما سمي حينها حرب البابا غنوج عام 1998، يوم اكتشفت في بعض المتاجر الغربية معلبات تحتوي على متبل الباذنجان بالطحينة (بابا غنوج) المصنع والمعلب في إسرائيل، لكنها بدل احتوائها على الطحينة كمكون أساسي احتوت على المايونيز، وذلك ليس فقط لسرقة المنتج بل لتغيير الذوق والطعم وتشويههما بشكل كارثي، لكن هذا المنتج لم يستمر بعد اكتشافه، ومنذ ذلك اليوم لم تطف على السطح أي مشكلة إسرائيلية - لبنانية باستثناء ما حصل خلال هذه الفترة. لكن، على الرغم من الوجود اللبناني القوي في العالم، لا يزال الخوف من سرقة إسرائيل للمنتجات اللبنانية التقليدية كبيرا من اللبنانيين سلطة وشعبا ومؤسسات. وكأن المؤسسات اللبنانية الكبيرة الموجودة في أوروبا، التي تساهم في نشر الأطعمة اللبنانية المميزة، غير كافية لتثبيت الهوية الحقيقية لهذه المأكولات. غير أن لهذا الموضوع جانبا آخر ليست له علاقة بالهوية أو بغيرها بل بقدرة اللبنانيين على التضامن من أجل مشاريع بهذا الحجم تعنى بالهوية الوطنية لبلدهم، إذ يشكل هذا الموضوع أحد الأسباب الرئيسية وراء قدرة الإسرائيليين على إقناع عدد هائل من الغربيين بالهوية الإسرائيلية لبعض المنتجات التي تغتصبها الدولة العبرية تماما مثلما تغتصب الأرض. يسبر هذا التحقيق سيرة أربعة مطاعم لبنانية موجودة في مدينة فرنسية صغيرة والحروب السرية التي تدور بينها، والصراع على الهوية والملكية.

في الجنوب الشرقي من باريس، تعتبر مدينة غرونوبل مكانا مميزا للمطاعم اللبنانية، فالمدينة تعج بالأجانب بسبب وجود ثاني أكبر تجمع للجامعات الفرنسية فيها، وقربها اللصيق من إيطاليا جنوبا وسويسرا شمالا. ومع أن أقدم المطاعم اللبنانية فيها لم يتجاوز عمره الـ20 عاما، إلا أن الإقبال على الأكل اللبناني من قبل الفرنسيين يحقق النسب الأكبر من بين المطاعم الأجنبية الأخرى الغريبة عن المطبخ الفرنسي. يروي صاحب مطعم «الأرز» le cèdre، علي رتيل، وهو ثاني من افتتح مطعما لبنانيا في المدينة، أن الإقبال على الأكل اللبناني أسبابه كثيرة ومتنوعة، أهمها أن المازة اللبنانية خفيفة وقليلة الدسم، كما أنها تحمل في مذاقها نكهات الشرق التي تتمثل في أنواع البهارات المتنوعة التي تستخدم في المطبخ اللبناني. كما أن الأكل اللبناني يمتاز دون غيره بقربه من الأكل الفرنسي حيث يقدم بطريقة جميلة ومرتبة جدا، مما يشجع تناول الفرنسيين له. لكنه يضيف أن المهنة مع الأسف أصبحت مباحة لكل من يبغي التجارة السهلة، فاللبناني يعرف جيدا مطبخه، وهو «مطبخ سهل على اللبناني الذي تربى في لبنان وعاش فيه ردحا من الزمن». وهذا «الاستسهال يسيء إلى المطبخ اللبناني حيث يمكن صناعة الأطباق بتقليل المواد الأولية، الأمر الذي يضر بالطعم الأساسي للأطباق، إلى جانب تشغيل أشخاص لم يدرسوا المهنة، وبالتالي لا يعرفون عنها الكثير، كما أن بعض العرب من غير اللبنانيين وجدوا في افتتاح مطاعم لبنانية غنيمة سهلة، مما أساء إلى شهرة الأكل اللبناني حيث يحضرون المأكولات اللبنانية المقتصرة على المازات بشكل خاطئ ويغيرون النكهات الأصلية، الأمر الذي يدخل الزبائن في نوع من الحيرة حول النكهة الأصلية التي يمتاز بها الأكل اللبناني». لكن رتيل، وهو صاحب أشهر مطعم لبناني في المدينة، يضيف أن الزبائن من الفرنسيين «أصبحوا يعرفون جيدا كيف يفرقون بين الجيد والسيئ في المطعم اللبناني، ولذلك فإنهم غالبا ما يجربون عددا من المطاعم ليستقروا على واحد منها». فالمدينة التي لا يزيد عدد سكانها على 400 ألف نسمة تحتوي على ستة مطاعم لبنانية في حين أن مدينة في حجم ليون (4 ملايين نسمة) لا تحتوي سوى على ثلاثة مطاعم فقط. ومن اللافت للانتباه في سيرة هذه المطاعم الخمسة أن المطعم الوحيد الذي يملك أكبر نسبة من زبائن الأكل اللبناني هو مطعم «الأرز» رغم أنه موجود في طريق فرعي وبعيد نسبيا عن قلب المدينة ولا يمكن اكتشافه بسهولة كما هو الحال مع المطاعم الأخرى، مما يعني أن زبائنه يأتون إليه، وإليه فقط، دون غيره لمعرفتهم بنوعية الأكل التي يقدمها والصيت الذي كسبه بعد عقدين من العمل المتواصل في المهنة. كما أنه المطعم الوحيد في المدينة الذي يعمل به طباخ (شيف) واحد لم يتغير منذ افتتاحه وحتى الآن، مما يعني أن مستوى المأكولات التي يقدمها لم يتغير أو يصاب بنوع من التفاوت في الذوق والنوعية من جهة وفي طريقة التقديم والتحضير من جهة ثانية. ومع أن رتيل يبالغ في وصف المطاعم الأخرى ويقلل من جودة ما تقدمه، فإنه في كثير من الأحيان يصيب الحقيقة في عدد من النقاط. ليس بعيدا عن شهرة هذا المطعم، يحتل مطعم «لبنان الأخضر» Liban vert ما يمكن وصفه بالمرتبة الثانية في الشهرة، وهو موجود في واحدة من أهم ساحات المدينة، مما يسهل عملية العثور عليه. وكغيره من المطاعم اللبنانية الأخرى، لا يقدم «لبنان الأخضر» سوى عدة أطباق من المازة لا تتجاوز الثمانية أطباق أي نحو عشرة في المائة من أطباق المازة اللبنانية إضافة إلى اللحوم المشوية التي تقتصر على الشيش طاووق والشاورما والكفتة المشوية، ويجاور المطعم «سناك لبنان الأخضر» الذي يقدم بعض السندويشات بالخبز اللبناني الشهير. و«لبنان الأخضر» ليس فقط الثاني من حيث الشهرة بل الثاني أيضا في العمر، إذ تم افتتاحه قبل 15 عاما، لكنه يعتمد على رواد المدينة الذين يتجولون في أزقتها وساحاتها، مع حفاظه بالطبع على عدد كبير من الزبائن الذين يعتبرون أنفسهم أوفياء له كما يعبر المسؤولون عن المطعم. ويمتاز «لبنان الأخضر» بديكوره الدافئ وعدد من اللوحات الكلاسيكية التي تمثل الشرق في بعده القديم جدا، كما أنه يعتمد طريقة مميزة في التعامل مع زبائنه على طريقة المطاعم الفرنسية. في جانب آخر مغاير، يعتبر «Cote Damas» المكان الوحيد الذي يلبي طلبات تحضير المأكولات اللبنانية - السورية للأفراح والمناسبات، فهو ليس مطعما بالمعنى الكلاسيكي بل هو مطبخ فقط. مع ذلك فأصحاب المطاعم اللبنانية تحاربه، على أساس أنه ليس لبنانيا كما هو الحال مع مطعم «السفير» الذي يملكه فلسطيني، وهو أول مطعم في المدينة كان قد افتتح في نهاية الثمانينات. ويبرر الشيف خالد العبده صاحب «Cote Damas» تسميته بأن المطبخ اللبناني ليس لبنانيا صرفا، بقدر ما هو لبناني - سوري مشترك، أو بالمعنى الأصح «متوسطي»، أي يضم معظم الدول التي تقع شرق المتوسط، ومنها لبنان وفلسطين وسورية والأردن وتركيا، دون أن يذكر إسرائيل. لكن مجرد وصف الأكل اللبناني بأنه متوسطي يعطي الحق لإسرائيل بأن تكون من الشركاء في هذه المأكولات كونها دولة في الشرق الأوسط كما قال لي زبون فرنسي يتردد دائما على المطاعم اللبنانية. أما الشيف العبده فيقول تبريرا لنظريته بأن أنواع الكبة الموجودة في سورية على سبيل المثال تفوق بأضعاف مضاعفة الأنواع اللبنانية، وأن معظم المأكولات «آتية من مدينة حلب التي تشتهر بأنها موطن المطبخ اللبناني - السوري منذ عدة قرون خلت». مطعم «السفير» الذي عانى كثيرا من المشكلات التي كان يخلقها له أصحاب المطاعم اللبنانية الآخرون، لم يستكن صاحبه للمشكلات التي كانت ترافقه يوميا، بل عمد إلى طريقة تجلب الزبائن إليه، لا تكون مقتصرة على نوعية الأكل أو حتى طريقة التحضير والتقديم، بل اخترع شيئا جديدا هو قراءة الفنجان للزبائن، مما ضاعف عدد زبائنه عدة مرات. ويفتخر صاحب المطعم بأن لديه زبائن يأتون للعشاء من جنيف ومن مدن فرنسية أخرى لاكتشاف حظهم وما يخبئه لهم تِفلْ القهوة بين خطوطه المتعرجة التي على ما يبدو أنها طريقة مفيدة في اقتناص الزبائن. أما نوعية المأكولات التي يقدمها فهي بشهادة قريبين منه لا تشبه لبنان في شيء، بل إنها خليط يجمع بين المطابخ التركية واللبنانية والفلسطينية والسورية وفي النهاية لا تشبه شيئا، فالمعروف عن المطعم أنه مختص بمن لديه شغف باستطلاع المستقبل من خلال فنجان قهوة. لا تعدو هذه السيرة المختصرة لعدد من المطاعم اللبنانية سوى سيرة نموذجية لعدد كبير من المطاعم اللبنانية توجد في كثير من المدن الأوروبية، وما يجمع بينها جميعا، لا الخبرة ولا المعرفة بأسرار المهنة ودقائقها بل كونها تجارة رابحة تدر الكثير من الأموال على أصحابها دون النظر في النوعية التي تقدم ولا في الانتماء الذي يسهل عملية التكاتف لنشر أفضل صيت عن المطبخ اللبناني. لكن الفرنسي ليس ساذجا، فقبل عدة أشهر وفي فقرة تحضير أطعمة عالمية في برنامج تلفزيوني حضرت الطاهية طبق التبولة اللبنانية ولكنها أكثرت من البرغل وقللت من البقدونس، فما كان من مقدم البرنامج إلا الاعتراض على تسميتها بالتبولة اللبنانية بقوله «هذه التبولة ليست لبنانية».