الخبز في لبنان: لقمة عيش مغمسة بعبق التراث

أنواعه تقليدية محلية وأجنبية عصرية

TT

للخبز في لبنان تاريخ طويل مع التقاليد ومواكبة العصر في الوقت عينه. فلقمة العيش هذه المغمسة بعبق التراث اللبناني الذي ينضح في بيوت كل منطقة لبنانية على اختلاف فئاتها، تلحق بركب العصر وتطوره، محافظة على أصولها من جهة، وتلبية متطلبات الحياة ووجباتها السريعة من جهة أخرى. وكثيرة هي أنواع الخبز التي تغزو الأسواق اللبنانية، وتبقى وأشكالها ومكوناتها في تجدد مستمر، لا سيما في ما يتعلق بالمكونات التي يعمل التجار على ابتكار أصناف جديدة منها تحت عناوين مختلفة، منها الصحية ومنها المفيدة لبعض الأمراض.

هذا الحضور اللافت للخبز في الأسواق لا بد أن يعود بالدرجة الأولى إلى أهمية الخبز وموقعه في المائدة اللبنانية التي تتلون بأنواع كثيرة من المأكولات والأطباق. فلا يقتصر استعماله، كما في بعض الدول، على وجبة الفطور، التي قد تدخل فيها أيضا المناقيش على أنواعها بالزعتر أو بالجبنة أو باللحمة، بل هو سيد المائدة في الوجبات الثلاث، ولا عجب أنه يحضر أيضا في بعض البيوت مع الوجبات التي يدخل فيها الأرز أو ما يعرف بـ«اليخنة»، إذ قد يحلو للبعض تناولها بالخبز بدلا من الشوكة أو الملعقة.

ولـ« خبز الصاج» كما يسمى في القرى، أو «المرقوق» كما يعرف في المدن، حكايات بل وذكريات خاصة مع اللبنانيين بشكل عام والقرويين بشكل خاص، فرغيف «الخبز الأشقر» الواسع الذي يشبه قرص الشمس، ويغري برائحته الزكية الفم بأكله، لا سيما إذا كان طازجا «يفوح منه» طعم التراث، لا يزال محافظا على موقعه في موائد اللبنانيين، وإن قلّت فرص الحصول عليه مخبوزا على الحطب، بعدما دخل التطور على الخط، وصار يخبز على الغاز مع المحافظة على الآلة نفسها التي تعرف بـ«الصاج». وبعدما تخلت النساء في هذا العصر عن كل هذه العادات التي تربت عليها نساء الزمن الغابر ولحق أبناء القرى كل مظاهر التطور والرفاهية، تحول خبز الصاج مثل غيره من أنواع الخبز الأخرى، إلى تجارة مربحة تعتمدها المخابز الكبرى والصغيرة في لبنان مع ما تبذله من جهود في محاولة منها للتميز أكثر عن غيرها، ولا سيما فيما يتعلق بجودة الخبز ومكوناته. هذا من دون أن نغفل إدخال خبز الصاج في أنواع متعددة ومختلفة من الأطباق التي تقدم في أفخر المطاعم اللبنانية، التي عمدت إلى الاستعانة بنساء لبنانيات نزحن من قراهن بحثا عن «لقمة عيشهن»، لصنع لقمة عيش الآخرين، وصار وجودهن داخل المطعم مع الصاج يخبزن الخبز الطازج من المقومات الجاذبة في المطعم.

كذلك، لـ«التنور» في لبنان حكايته أيضا التي ترتبط بذاكرة مناطق البقاع التي اشتهرت بصناعة هذا الخبز دون غيرها من المناطق اللبنانية. فهذا التنور تحول إلى ذكريات يقصها البقاعيون الذين أمضوا طفولتهم في قراهم يختبأون بين بيوتها ويبحثون عن أي تنور ليشكل مخبأ سريا لهم، على الرغم من معرفتهم بما سينتج عن هذا السلوك من عقاب. والتنور هو عبارة عما يشبه الغرفة الصغيرة بجدران من الطين، في وسطه حفرة حيث يشعل الحطب فتجتمع النسوة حوله ويتعاون على «لصق» العجين على جانبيه. وخير دليل على عادة اجتماع النسوة في جلسة خبز التنور هي المقولة الرائجة في لبنان «نسوان التنور»، وهي لا تزال تستخدم وإن كانت معدلة في بعض الأحيان إلى «نسوان الفرن»، وذلك للدلالة على ما ينتج عن اجتماع نسوة القرية حول التنور من نميمة، وما يدور بينهن من أحاديث مختلفة.

ويجتمع «التنور» و«الصاج» في طقوس جلساتهما الخاصة التي لا تزال حاضرة في ذاكرة أهل القرى، ويحاول البعض مزاولتها بما يتلاءم مع طابعها الحالي. وكي تكتمل «جلسة الخبز» هذه كان لا بد من تأمين أدواتها الرئيسية المتمثلة في الزيتون البلدي وزيت الزيتون واللبنة البلدية، من دون أن ننسى «القاورما»، التي هي عبارة عن لحم مطبوخ ومبرد ليتحول إلى «وجبة غنية»، يوضع منه على ما يسمى رغيف «الطلمية»، وهو لا يختلف كثيرا في الشكل عن خبز التنور الدائري إلا بسماكته.

لكن، وفي السنوات الأخيرة شهد لبنان ظاهرة لافتة فيما يتعلق بإنتاج أو إعادة إنتاج أنواع مختلفة من الخبز، وعلى رأسها «خبز الصاج» و«خبز التنور» و«المشطاح الجنوبي»، إذ إنها لا تزال حاضرة في بعض القرى، لكن ليس كعمل تقوم به ربات البيوت، بل كتجارة يعتمدها الكثير من النساء إما في قراهن أو في المدن، وهي ظاهرة انتشرت كثيرا في الفترة الأخيرة في معظم المناطق، وتستقطب عددا كبيرا من الزبائن، ولا سيما هؤلاء الذين وجدوا فيها رائحة خبز أمهاتهم أو جداتهم.

اسم «التنور الأسمر» يعود إلى فرن راجت أرغفته في الأسواق اللبنانية بشكل ملحوظ تحت شعار «الخبز المناسب للحمية ولمرض السكري»، وهذه الأرغفة تشبه بحجمها خبز التنور التقليدي لكن بلون أسمر وعجينة رقيقة. ويقول أحد أصحاب «التنور الأسمر»: «لم أكن أتوقع أن يهتم اللبنانيون بجودة الخبز إلى هذه الدرجة، وتحديدا الخبز المخصص للحمية الغذائية، لكن بعدما لمست هذا الاهتمام، حرصت على اعتماد مكونات صحية بامتياز، وأهمها طحين القمح مع النخالة، وبنسبة من القشرة تصل إلى 35 في المائة. وهي تفيد الصحة، وبشكل خاص الجهاز الهضمي، وهي غنية بالفيتامينات والألياف من دون أن يدخل فيه السكر الذي يدخل في مكونات الخبز الأبيض». ويعزو سبب نجاح تجربته إلى أن السر الذي يكمن خلف نجاح الخبز هو طريقة خبزه، إذ كلما خبز بشكل جيد أكثر كان طعمه أطيب.

كذلك، إضافة إلى خبز الصاج الذي ينتشر في الجنوب اللبناني يدخل على خط الخبز التقليدي «المطور» ما يعرف بالمشطاح الجنوبي أو «الجريش»، ويقول البعض أن أصول هذا المشطاح إيرانية، لكن عمد أهالي الجنوب اللبناني إلى التفنن فيه من خلال إضافة التوابل والبهارات إليه، من العقدة الصفراء إلى المحلب ودقيق القمح، الأمر الذي جعله يختلف قليلا بين منطقة جنوبية وأخرى مع مكون ثابت واحد هو «الجريش»، أي القمح البلدي الكامل «المجروش» أو «المدقوق ناعما»، وخبزه لا يتطلب فرنا معينا، بل يصلح في كل أنواع الأفران.

واليوم صار لـ«مشطاح الجريش» أيضا أفرانه التجارية المتخصصة على طريق الجنوب اللبناني، حيث باتت محطة المتجهين نحو قراهم، وصار يستعاض به عن عجينة المنقوشة ليضاف إليه الزعتر أو الجبنة واللبنة لتجتمع مكوناته وتنتج طعما لذيذا.

ولأن الخبز دخل مثل غيره من المأكولات الأخرى في لبنان إلى سوق العرض والطلب، فأنواعه تتعدى وبالتأكيد تلك التقليدية المستحدثة لتقديمها على أنها الصحية والملائمة للحمية ولمرض السكري ومشكلات الهضم والمعدة. وبالتالي فإن الدخول إلى الأفران في لبنان والمحلات التجارية يجعل الزبون في حيرة من أمره للاختيار من بين أنواع الخبز الكثيرة التي تتراوح بين تلك التقليدية والعربية، إضافة إلى الأجنبية على اختلاف أنواعها وأشكالها ومذاقاتها.

ومما لا شك فيه أن للخبز اللبناني الأبيض حضوره الذي لا يزال أيضا طاغيا في الأفران والمحلات التجارية وفي البيوت على حد سواء. ويشير مدير المبيعات في أحد الأفران اللبنانية إلى أن مبيعات الخبز الأبيض في لبنان لا تزال تتفوق على أنواع الخبز الأخرى، وأهمها الصاج والتنور والأسمر والنخالة، وذاك الذي تدخل في مكوناته الحبوب، إضافة إلى ما يعرف بـ«الإفرنجي» أو الأجنبي بأنواعه التي تصل إلى 10 تقريبا، لكن تختلف النسبة إلى حد ما في المناطق المعروفة بمستوى معيشة مرتفع مقارنة بالمناطق الفقيرة، وذلك نظرا إلى ارتفاع سعر هذه الأنواع من الخبز بسبب عدم دخولها في الدعم الذي تقدمه وزارة الاقتصاد اللبنانية للخبز الأبيض، مع العلم بأن معظم اللبنانيين الذين يفضلون الحصول على الخبز التقليدي يتجهون أكثر نحو الأفران الصغيرة، حيث تخبزه النساء القرويات على أصوله.