عندما يلتقي الفن بالطعام الراقي في باريس

جولة على مطاعم تتعدى مفهوم تقديم الطعام

TT

يبدو ذلك الصندوق الأبيض المستطيل بقاعة العرض غامضا وملغزا. بينما كانت سحب الشتاء تمر عبر السماء الباريسية، كنت أراقب زوار متحف الفن الحديث «باليه دي طوكيو» وهم يتوقفون أمام العمل الفني «(لعنة) غير معنونة، للفنان الأميركي المفاهيمي توم فريدمان» ويتوهون في عظمتها. أكنا نحدق في شيء ثوري أم عادي؟ هل ستحتفظ الذاكرة بذلك العمل الإبداعي المثير باعتباره عملا عبقريا أم باعتباره هراء؟

ولاحقا، وبعد أن ذهبنا إلى سطح المتحف، كانت الأسئلة مشابهة تغزو عقلي فيما قام المرشد باصطحابي و11 آخرين إلى بناء شبه مستطيل الشكل ذي إيحاءات طليعية؛ وهو مطعم «نوميا».

وكان ذلك البناء الذي صممه لوري غراسو - الفائز بجائزة مارسيل دوشان الفرنسية العريقة - يتكون من صندوق زجاجي بسيط على الطراز المعاصر، وكان له راع رسمي على غرار المعارض هو شركة «إلكترولوكس»، كما أنه يقام لفترة محددة - على غرار المعارض أيضا - حيث سيغلق في ديسمبر (كانون الأول). وكان ذلك البناء الشفاف الملامس للأفق يخطف العين بلا شك. ولكن هل يؤدي ذلك التقاطع القوي بين الفن وعلم الأكل إلى شيء أصيل أم زائف؟

لعدة سنوات، كانت لدى متاحف باريس دائما قاعات كئيبة لتناول الطعام وكافيتريات تقدم طعاما تقليديا في تناقض مع أجندة مؤسساتهم المتطورة وقاعات العرض التي تعج بالأعمال الفنية الرفيعة. ولكن خلال الأعوام القليلة الماضية حدث تحول جوهري؛ حيث ظهرت سلسلة من المطاعم - التي تتراوح بين المطاعم التجريبية الجريئة إلى المطاعم الهادئة - في المتاحف وجميع المؤسسات الثقافية الأخرى بجميع أنحاء المدينة.

وأصبح الطهاة المشاهير يتجمعون في تلك المطاعم الحيوية مثل «نوميا»، و«ميني باليه» الملحق بقاعة عرض «غران باليه» المهيبة؛ والذي من المتوقع أن يتم إعادة افتتاحه خلال الصيف بعدما تم توسيعه وأعيد تجديد طرازه، إضافة إلى أن الطاهي إريك فريشون هو من سيشرف على قائمة الطعام به.

وقد رفع بعض المعماريين المشاهير مستوى مطاعم مثل ذلك المطعم الزجاجي «ليزاومبر» ذي الطراز ما بعد المعاصر والملحق بمتحف «برانلي» (على غرار المتحف، صمم المطعم المعماري جان نوفل الفائز بجائزة المعمار بريتزر)، وقاعة الطعام الفاخرة بـ«موزيه دوارسيه» التي أضفى عليها الاختصاصي في المتاحف ميشال ويلموت بعض اللمسات المعاصرة. وتجمع معظم تلك المطاعم الحديثة بين الأطباق الشهية والديكور الذي يسمح بإطلالة بانورامية.

نوميا

* في نوميا، أجلسنا المضيف حول طاولة ممتدة ورفع الستائر التي كانت تغطي الجدران من الأرض إلى السقف كاشفا عن مشهد مذهل. فعلى الجانب الآخر لنهر السين، كانت انعكاسات القبة الذهبية لفندق «ليز إنفاليد» تتلألأ على الأسطح. وعلى مقربة منها، كان برج إيفل يقف ككأس الشمبانيا الذي حصلنا عليها كترحيب باستقبالنا. وقال لنا المضيف إن قائمة الطاهي يليس ستاسرات تتغير باستمرار: «لقد أصبحت أنت شخصيا عنصرا فنيا، فالناس في الأسفل يشاهدونك حاليا».

وسرعان ما بدأ الطعام يصل من طاولة المطبخ التي تعج بالحركة والتي تقع على مقربة من طاولتنا إلينا؛ حيث جاء حساء القرع الشهي الأصفر المزين ببطارخ السمك في محاكاة قشدية تجمع بين المذاقين المالح والحلو للأطعمة التي تجمع بين الأسماك واللحوم. تناولنا مرق الخضراوات المضاف إليه معكرونة التورتليني وقطع الدجاج مع المحار والفجل الأخضر، في مزيج راق بين الدواجن والمأكولات البحرية مع خبز الخميرة الذي تم جلبه من مخبز «بوجوران» بباريس. وآخر تلك الأطباق كان فيليه لحم العجل الغني بالعصارة الذي يجمع بين مسحوق المريمية وقشرة من البقسماط المطحون والمذاق القشدي الحلو لمهروس الجزر الأبيض والبندق.

وانتهى الأمر بشرائح سميكة من كعك الشوكولاته وحبوب الكستناء مع آيس كريم خبز الزنجبيل، مما جعلنا جميعا نوشك على التحليق. حيث كنا نشعر ونحن محاطون بفضاء الجدران الزجاجية لنوميا كأننا أسماك منتفخة في حديقة الأسماك اليابانية.

أوزو

* لقد تعزز ذلك الشعور في أوزو، وهو المطعم الياباني الذي يقع بحديقة أسماك حقيقية يطلق عليها «سينيك». وعلى غرار نوميا، كان الديكور بسيطا وحاد الزوايا: خشبا فاتح اللون، وأسطح ملساء، وخطوطا حادة. وكما هو الحال في نوميا، كانت النافذة الكبيرة في غرفة الطعام توفر لنا إطلالة مميزة. ولكن بدلا من الإطلال على مدينة باريس، كنت وصديقتي سيسيل نحدق في أسماك القرش والأسماك الغريبة المتنوعة في ذلك الصهريج الهائل المكون من طابقين.

وعلى نحو ملائم، بدأت الوجبة بشرائح سمك «الساشيمي» الرقيقة الطازجة التي تذوب في الفم مخلفة مذاقا مالحا، فيما كانت شطائر التونة الحارة عادية إن لم تكن غير مميزة. ومن الطعام النيئ إلى الطعام المطهو، جمعنا شرائح من السالمون المدخن على خشب الكرز الذي طغى عليه لسوء الحظ الفجل الأبيض المقرمش الذي كان يحيط بها. فيما كانت الشريحة السميكة من سمك «الأخفس» صلبة كقطعة لحم يصاحبها مذاق حلو بعض الشيء ناتج عن معجون «الميزو» المضاف إليها.

لو سو دو لوب

* لم تكن المجموعة الجديدة من المطاعم ناجحة جميعها. فقد جاء مقهى «كارلو» الملحق بمتحف «سيتي دي لاركيتكت إيه دو باتريموان» الذي يشتمل على تاريخ العمارة، والذي يعد فضاء أبيض بهيجا ذا مدخل جذاب وإطلالة على برج إيفل لم يعكر صفوها سوى طعام الغداء غير المميز: شطائر تفتقر إلى الخيال وبراونيز جافة. وكان ذلك هو ما حدث أيضا في مطعم «لي 51» الملحق بـ«لا سينماتيك فرانسيس»؛ متحف للأفلام وأرشيفها يقع بمبنى «فرانك غيري».وقد صمم قاعة الطعام الأنيقة المصممة باللونين الأحمر والأبيض شركة المعمار «إم يو تي» المعمارية التي أضفت على المكان طرازا خاصا، ولكن عدا ذلك فلا شيء؛ فكان طبق أرجل البط جافا وكان من المفترض أن تكتسي كعكة الشوكولاته الدافئة بصوص الكراميل إلا أنها جاءت لسوء الحظ مغطاة بصوص (صلصة) الشواء.

وقد شعرت بالإحباط كذلك في «لي سو دو لوب» وهو المكان المثير في «موزي دي أرتس ديكرواتيف» بمتحف اللوفر الذي كان يلقى هجوما دائما في منتديات الدردشة الفرنسية الإلكترونية حول الطعام. وفي مساء أحد أيام ذلك الأسبوع، كان المشهد هادئا على غرار التصميم الداخلي للمصمم الفيليبيني بواسليير الذي جمع بين اللون الأبيض والفضي والأسود.

ليز أومبر

* مما لا شك فيه أن مطعم «ليز أومبر» الذي صممه جان نوفيل - تصميم زجاجي هندسي ذو سقف من القضبان المعدنية تنتصب كصوبة من المستقبل فوق «ميوز دو كواي برانلي»؛ مستودع ذو طراز حداثي يجمع بداخله المقتنيات الأنثروبولوجية العالمية - هو أكثر المطاعم الحديثة لفتا للانتباه.

بداخل المطعم، خافت الإضاءة، كانت هناك ضوضاء خافتة لدردشات الأزواج، والأصدقاء والمحبين الذين يتهامسون بلغات متعددة وهم يتأملون برج «إيفل» المتألق.

* خدمة «نيويورك تايمز»