الخروب.. بوليصة تأمين ضد المجاعة

بذوره كانت تستخدم لقياس المعادن الثمينة

TT

من النباتات الهامة التي يكثر استخدامها في البلدان العربية وبلدان منطقة الشرق الأوسط ويتعدد بشكل عام، الخروب، على الرغم من اختفائه من المشهد اليومي. فهو من النباتات التي إذا لم تؤكل قرونها طازجة، تُستخدم لغايات طويلة الأمد تتخطى الفصول الأربعة، عبر التجفيف والتخزين واستخراج الرب (العسل).

يطلق العرب على النبتة اسم الخروب (carob) كما يطلق عليها اليهود أيضا اسم «هروف (ب)» (haruv)، أما الإسبان في الجنوب فيسمونه «الخروبو» (algarrobo)، وهو يُزرع كثيرا في الأندلس، أما البرتغاليون في منطقة الغراف الجنوبية فيطلقون عليه اسم «الفاروبا» (alfarrob) (البرازيل تستخدم نفس الاسم المشابه للاسم المالطي «فلاروبا»). لكن في تركيا يطلقون عليه اسم «keçiboynuzu» الذي يعني «قرن العنزة»، وهو الأقرب إلى الاسم اليوناني. وفي أميركا اللاتينية وبشكل خاص في بعض مناطق الأرجنتين والباراغواي وكوبا وغواتيمالا يطلقون على الخروب اسم «الخروبو» (algarrobo). وعلى الأرجح فإن ذلك مأخوذ عن الإسبانية والعربية عبر المسلمين في الأندلس. وفي جزيرة صقلية في إيطاليا يسمي الناس شجرة الخروب «كاروبو».

والاسم اليوناني حاليا الذي يستخدم في الجزر أيضا هو «كاروبيا»، وعلى الأرجح أن هذا هو الاسم الأصلي الذي أطلق على النبتة منذ قديم الزمان واستخدمته معظم الشعوب لاحقا.

وحتى الاسم العلمي النباتي لشجرة الخروب وهو «كريتونيا سيليكا» (Ceratonia siliqua)، يعود إلى اليونانية، فكلمة «كيراتيون» تعني «ثمرة الخروب» وتعود إلى كلمة «كيراس» التي تعني «قرن». أما كلمة «سيليكا» (siliqua) اللاتينية فتعني «قرن الفول». والأهم من هذا أن كلمة «كارات» (carat) التي تُلفظ اليوم بـ«قيراط» التي تستخدم كوحدة قياس للأحجار الكريمة واللؤلؤ والذهب والماس، جاءت من كلمة «كيراتيون» التي تعني ثمرة الخروب كما ذكرنا سابقا. ويساوي القيراط الواحد اليوم 200 ملغم، أي أن الغرام الواحد يساوي 5 قراريط.

كانت بذور أو حبات الخروب تُستخدم لقياس كتل الذهب والأحجار الكريمة والمعادن الثمينة بشكل عام. ويعود ذلك إلى تساوي حباتها عادة في الوزن والحجم ما يمكن الاعتماد عليها كقياس، فبدأ اليونانيون التقليد وتبعهم الرومان ثم العرب وبقية العالم. ولا يزال القيراط حتى اليوم الوحدة الأساسية لقياس ما نعرفه بالجواهر.

الخروب علميا «كريتونيا سيليكا» نوع من النباتات المزهرة من فئة ثنائية الفلقة من عائلة البازلاء أو البقوليات العشبية (Fabaceae) من جنس «كيراتونيا» (Ceratonia). وقد بدأت عمليات زرعه واستغلاله على نطاق واسع في منطقة الشرق الأوسط وحوض المتوسط وخصوصا اليونان.

وقد دأب الناس منذ قديم الزمان على مضغ الخروب لطعمه الحلو، ويُستخدم دقيقه لتحلية وتغيير لون المشروبات الساخنة والباردة على حد سواء وبخاصة الحليب. كما يتم خلطه بدقيق الطحين لصنع الخبز الكعك والكثير من أنواع الحلوى والشيكولاته. ولأنه غني بالألياف يستخدم كثيرا في أطعمة الفطور. والأهم من هذا أنه يُستخدم كعسل، وهو ما نطلق عليه في لبنان وفلسطين اسم «رب الخروب» أو «دبس الخروب»، وهو عسل من الخروب كثيف حلو جدا ذو لون بني وذهبي داكن وصافٍ. ويتم أحيانا صناعة السندويشات مع الزبدة من هذا الدبس كما هو الحال مع المربى أو وضعه فوق قطع الحلوى وتزيينها. وصناعيا تستخدم حبوب الخروب والخروب بشكل عام كمادة مكثفة في منتجات الأفران والمخابز وصناعة البوظة، وإنتاج صلصات السلطات والأكل المختلفة، وصناعة الجبن والسلامي واللحوم والأسماك المعلبة والخردل والكثير من المنتجات الغذائية التي تكثر على رفوف السوبرماركت. وتشير بعض الأبحاث الأميركية بهذا الصدد والخاصة بنهاية السبعينات إلى أن صبغ الخروب وخلاصاته كان يُستخدم لتكثيف وتثبيت وتطعيم أو تحلية الكثير من المنتجات الغذائية الحديثة، ويأتي في صلب صناعتها، ومن هذه المنتجات: الحلويات الصغيرة والكعك والبسكويت والباستا أو المعجنات الخاصة بالاسباغيتي وصلصاتها أيضا وبخاصة صلصة اللحم المفروم. كما يدخل في صلب منتجات الزيوت وخلطاته ومنتجات الألبان والأجبان على جميع أنواعها البيضاء والصفراء، الطرية الحية أو الناضجة. كما يدخل الخروب في صلب صناعة الشيكولاته والكريم والزبدة والبوظة والفاكهة المثلجة وجميع أنواع عصير الفاكهة وبدائل البيض وعدد هائل من المنتجات قادرة على ملء سوبر ماركت من الحجام الكبير.

ويستخدم الألمان حبوب الخروب المحمصة مكان حبوب البُنّ أحيانا ولصناعة القهوة، أما في إسبانيا فيخلطون هذه الحبوب مع حبوب البن قبل التحميص. على أي حال فإن الخروب كان من المآكل التاريخية الهامة إذ لجأ إليه الكثير من الشعوب لكثافته وقدرته على الصمود بعد التجفيف، من أهل اليونان القديم إلى الشعوب المتوسطية وغيرها، لاستخدامه في أثناء المجاعات وكمحصول يؤمنهم ضد المجاعة فعلا لسهولة حفظه وطول مدة استخدامه. وفعلا لجأت إليه بعض الشعوب قديما وحديثا في أثناء المجاعات التي كان يسببها الجفاف وهلاك المحاصيل في بلاد ما بين النهرين ومصر قديما، وبديلا عن الكثير من الأغذية غير المتوفرة.

أي أنه في النهاية لم يكن مصدرا لقياس أغلى معادن العالم فحسب، بل بوليصة تأمين ضد المجاعة والجفاف الذي قضى على الكثير من الشعوب والحضارات منذ قديم الزمان.

وكما سبق وذكرنا، يُعتبر المتوسط وخصوصا المشرق العربي أو بلاد الشام التي تضم لبنان وفلسطين وسورية والعراق والأردن وقبرص قديما، موطن الخروب الأصلي منذ أربعة آلاف سنة. وذكر ثيوفراطوس الإغريقي في القرن الرابع قبل الميلاد، أن بعض الناس آنذاك كانوا يطلقون على الخروب اسم التين المصري أو الفرعوني. إذ إنه من المعروف أن الفراعنة استخدموه بكثرة ووفرة وخصوصا خواصه الصبغية لصناعة الدبق والمواد اللاصقة للف وتوضيب المومياء. وتم العثور على الكثير من حبوب الخروب في القبور والأضرحة الفرعونية القديمة والتي يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة.

وقد جاء ذكر الخروب في الإنجيل، وكان يطلق عليه آنذاك اسم «خبز القديس يوحنا» أو «قرن الخروب»، في عملية خلط بين قرن الخروب والجراد الذي أكله القديس يوحنا في البرية آنذاك. مهما يكُن فإن الخروب الذي يصل طول شجرته أحيانا بين خمسة عشر وسبعة عشر مترا ويعمر لأكثر من ثمانية عشر عاما، كان ينمو في البرية في بلاد المشرق وخصوصا المناطق الوعرة التي تحبها نبتة الخروب، حسب تأكيدات ألفونسو دي كاندولي، وبشكل خاص في القسم الساحلي الجنوبي من بلاد الأناضول، أي سورية (برقة) ولبنان.

وبعد انتشاره في اليونان وبين أوساط الرومان الذين كانوا يحبون أكله طازجا أخضر وجافا بني اللون، ودول المشرق، تم نقله عبر المسلمين والعرب من شمال أفريقيا حيث كان يُزرع بكثرة أيضا، إلى إسبانيا والأندلس قبل القرون الوسطى إلى جانب الحمضيات والزيتون وقصب السكر. وقد حمل الإسبان والبرتغاليون معهم الخروب إلى أميركا اللاتينية والمكسيك عبر الأطلسي في أثناء حملاتهم الاكتشافية والاستعمارية. وانتشرت زراعته لاحقا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر في المناطق الساحلية الجنوبية الإسبانية والبرتغالية ومايوركا وجزر المتوسط الهامة مثل كريت وصقلية وقبرص وسردينيا ومنطقة باري الإيطالية وعلى الساحل الأدرياتيكي الذي يشمل مناطق البندقية في شمال إيطاليا وبعض المناطق الساحلية الكرواتية. ويبدو أن حبوب الخروب أو بذوره انطلقت من الأدرياتيكي باتجاه روسيا في القرن التاسع عشر. وقد أسهم الأمير بيلومونت في إقليم ساليرنو في إيطاليا آنذاك بدور كبير في نشر الخروب واستغلاله وزراعة آلاف الأشجار منه للاستخدام التزييني أحيانا للحدائق والشوارع، إذ إن شجره وافر وجميل كبير ويصل أحيانا قطر ساقه إلى متر تقريبا.

وفضلا عن أن الإسبان نشروا الخروب في أميركا اللاتينية والمكسيك، فقد أسهموا أيضا بنشره في جنوب كاليفورنيا عبر المكسيك. واشترت الولايات المتحدة الأميركية منتصف القرن التاسع عشر نحو ثمانية آلاف شجرة خروب من إسبانيا، ولاحقا من فلسطين. وتم توزيع وزرع هذه الأشجار في ولايات أريزونا وتكساس وفلوريدا التي استخدمته لتزيين الشوارع أيضا على غرار ساليرنو. وفيما بدأ استغلال الخروب على نطاق واسع في أميركا ولغايات استهلاكية في نهايات القرن التاسع عشر، شهدت ولاية كاليفورنيا طفرة خروبية في عشرينات القرن الماضي.

كما قام الإنجليز أو البريطانيون خلال حملاتهم الإمبراطورية العسكرية قديما بنقل الخروب إلى المستعمرات الجديدة في جنوب المعمورة في أستراليا ونيوزيلاندا وإلى الهند والكثير من المستعمرات والجزر الصغيرة في المحيط الهادي.

لطالما اعتُبر الخروب الخيار أو البديل الصحي الآخر لليشكولاته، لأنه خال من المواد المنبهة مثل مادة الـ«ثيوبرومين» والكافيين الموجودة في الشيكولاته. وتسبب هذه المواد عادة الحساسية وتؤدي إلى الإدمان والمزاج العكر. وهو حلو بالطبيعة، لذا لا تضم منتجاته الكثير من السكر فيها، ويمكن استخدام بودرته أحيانا بديلا عن بودرة أو دقيق الكاكاو في الحانات والمقاهي. كما يستخدم البعض الخروب مخلوطا مع البطاطا المدقوقة ناعما لعلاج الإسهال عند الأطفال. كما أن هذه النبتة الغريبة لا تحتوي على مادتَي «فينيليثيلامين» و«فرومامين» اللتين تسببان الصداع النصفي، وتؤديان إلى الحساسية أيضا.

وفضلا عن أن ثمانية في المائة من مكونات الخروب الطبيعية هي من البروتينات، فإنه يحتوي على الكثير من الفيتامينات مثل فيتامين «إيه» وفيتامين «بي» وفيتاميني «بي2» (الروبوفالافين) و«بي3» بـ«نياسين». كما يعتبر غنيا بمواد هامة جدا مثل الكالسيوم والبوتاسيوم والفسفور والمغنيسيوم والحديد والمنغنيز والباريوم والنحاس والنيكل. ولأنه لا يحتوي على حامض الأكساليك فهو يمنع الجسم من استخدام الزنك والكالسيوم مما يسهم في تحسين البشرة والجلد عند بعض الناس.

وبشكل عام يحتوي الخروب على كمية هامة من النشويات السكرية (carbohydrates)، ومن مادة التانين (Tannin). وهذا السكر هو ما يمنح الخروب صفاته الصبغية.

مهما يكن فإن الخرّوب من النباتات المحببة والمعطاءة، التي يكن لها كبار السن والصغار في بعض المناطق في البلدان العربية وخصوصا سورية فلسطين ولبنان وخصوصا في الجنوب، محبة خاصة فيها الكثير من التقدير والإعجاب. وكان جزء من الفاكهة الشتوية المجففة كالتين المجفف والمشمش، إضافة إلى الكستناء التي تذكّر دائما بفصل الشتاء وحميميته، ولهذا ارتبط أيضا بالتراث الشعبي فجاء في القصص والخرافات وجاء في الأغاني والكثير من أدوات التعبير الأخرى التي تعبّر عن مكانة الخروب وجماله، ولذا جاء أيضا في تطريزات النساء التراثية المعروفة.