الطهاة العرب يتحولون إلى نجوم

المطبخ التلفزيوني يطرح صيغته الشمولية

مخطئ من يعتقد أن البرامج الخاصة بالمطبخ وفن الأكل أسهل البرامج التي تقدم على شاشة التلفزيون
TT

* المعدة هي مُسببة الثورات في العالم (نابليون بونابرت).

منذ أن درجت عادة تقديم البرامج المختصة بتحضير الأطعمة على شاشات التلفزة العربية، وما يقدم فيها ضائع بين هويات ثقافية عديدة. قد يكون التعميم في هذه الحالة ظالما للبعض، خاصة أن بعض البرامج من هذا النوع، تختص بهويات ثقافية محددة، تستند إلى تاريخ مديد ولا تحتاج إلى الاتكاء على غيرها من أجل البروز. لكن وللحق، فإن غالبية هذه البرامج، تحيد عن هذه القاعدة لأسباب عديدة، أهمها على الإطلاق. أن المطبخ لم يعد ثقافة محلية فقط، بل تجاوز ذلك، ليكون نافذة على العالم، وعاملا لتلاقح الثقافات بعضها ببعض. لكن والحال هذه، فإنه تلاقح في المطبخ وأدواته ومكوناته. بيد أن عالمية المطبخ، باتت، منذ فترة من الزمن. تعيش صراعات جوهرية بين المطابخ المتنوعة، وقدرة كل مطبخ منها على هزم الآخر والتغلغل في مكوناته. وبالطبع، فإن لا مهزومين في هذه المعركة على الإطلاق. بل إن الواقع هو ما يفرض التأمل، مليا، في كم البرامج التلفزيونية على التلفزيونات العربية كافة. خاصة تلك التي تقدم مادتها على أساس أنها مادة ثقافية مهمة للشعوب، تمثل تاريخها وحاضرها ومستقبلها، وتمثل فيما تمثل، كما هائلا من التراكم التاريخي والقيمي للشعب نفسه. لقد بدأت برامج المطبخ التلفزيونية باحتلال مساحة كبيرة من هواء البث، حتى أنه أصبحت هناك قناة فضائية خاصة بالمطبخ، بعد أن أصبح الهواء مفتوحا بشكل كامل ودون ضوابط فعلية، تحد على الأقل، من كم الانفلات في تقديم المطبخ العربي والتطعيمات التي بدأت تدخل عليه، بشكل خاطئ في أغلب الأحيان. طبعا، ساهم في هذا الجانب العولمة التجارية، وتطوير العديد من المواد التي تدخل في مكونات الأطعمة، وانفتاح السوق على كل شيء. ولهذا جانب إيجابي بلا شك. لكن السؤال هو ماذا تقدم هذه البرامج وكيف تقدم أطباقها؟ وعلى ماذا تتكئ في ذلك التقديم؟ هل على أساس ثقافة معرفية بكل طبق يقدم؟ أم على أساس سهولة إيجاد هذه الأطباق في الموسوعات التي تقدم المأكولات في كل العالم وبلغات مختلفة؟ وهل على أساس تقديم مطبخ واحد من خلال التعلم والمعرفة أم من خلال الخلط بين المفاهيم والأكلات كما لو أنها مسألة بسيطة، يمكن بسهولة عجيبة النهل منها دون مراقبة أو حساب؟ أو يمكن تقديمها إلى المشاهد دون تعريفه ولو بخلفية بسيطة عن البلد، الذي أتت منه وما هو تاريخها وكيف بدأت والوصفات التي يمكن أن تحضر فيها؟ وإلى أي حد يوجد اختصاص في مطبخ معين ضمن هذه البرامج؟ دون أن يعني كل هذا تحويل هذه البرامج إلى برامج ثقافية جافة على عادة البرامج الثقافية التي تقدم أيضا بشكل ينقص من قيمة الثقافة نفسها. والحق أن غالبية هذه الأسئلة وغيرها الكثير، تطرح الآن، حيث أصبح حجم البرامج المختصة كثيرا جدا وعاما جدا. وفي البرامج التي يقدمها طهاة محترفون مثل أسامة السيد على قناة «دبي» أو شادي زيتوني على قناة «المستقبل» وحتى من قبله رمزي شويري على القناة نفسها وكذلك شميشة على القناة المغربية الأولى وكذلك حسن كمال على فضائية «الحياة» المصرية. يمكن تلمس الفوارق الثقافية بين طاه وآخر، طاه متمكن من مادته يعرفها جيدا تاريخا وتحضيرا ومكونات وآخر يتلعثم وهو يحضر الوصفة أو ينقل من أوراق مكتوبة أمامه أو يوجه من قبل المخرج الذي يدير الحلقة من الخلف. طبعا، فإن الحديث عن هذه البرامج دون غيرها، يعني أن هؤلاء الطهاة أصبحوا أصحاب حضور طاغٍ في كل منزل عربي يشاهدهم، وبالتالي فإن مسؤولية تتوقف على أدائهم وقدراتهم المعرفية وتخصصاتهم. وفي بحث بسيط، يمكن التعرف على ثقافة بعض هؤلاء الطهاة وقدراتهم المعرفية ومجالات تخصصاتهم. لكن والحال هذه، لا نجد، في أغلب الأحيان، هذه القدرات المعرفية في البرامج التي يقدمونها. قد يكون لدى البعض منهم، طموحات تجديدية كما حصل مع الشيف رمزي الشويري، الذي حاول تطوير المطبخ اللبناني لسنوات طويلة، وقد نجح في أطباق كثيرة وأخفق في أطباق كثيرة أيضا. لكنه وبسنوات قليلة تمكن من أن يتحول إلى نجم حقيقي في عالم الشاشة الصغيرة ينافس في نجوميته الكثيرين. الإيجابي في تجربة رمزي الشويري التلفزيونية أنه كان الطاهي الأكثر التزاما بمطبخه وبتراث المطبخ اللبناني. كما أنه لم يكن يتعدى على مطابخ عالمية ويخلطها بمطبخه، وهذه نقاط تسجل له. الشيف شادي زيتوني الذي يقدم هذه الأيام على قناة «المستقبل» فقرة المطبخ، صاحب تجربة طويلة أيضا، درس فنون الطهي في إيطاليا، وعمل فيها فترة قبل عودته إلى بيروت. ثمة فوارق كبيرة بين رمزي الشويري وشادي زيتوني، الشويري جاء من الطبخ اللبناني وبقي فيه، في حين أن زيتوني تلميذ المطبخ الإيطالي المتوسطي أيضا لكن المختلف كليا. لكن في حين أن مطبخ الشويري اللبناني كان متوفرا للمشاهدين في كافة مكوناته، فإن مطبخ زيتوني يعتمد على مكونات كثيرة هي في أغلب الأحيان لا توجد في الأسواق، أو أن الناس لا يعرفونها كثيرا، وهي إن وجدت فلن تكون بمتناول أغلبية المشاهدين. لكنه والحال هذه يقدم أطباقه بطريقة مميزة، وهو أدخل إلى جانب ذلك ميزة جديدة في عالم هذه البرامج، وهي الاستشارات التي تهم الجميع. يبدو زيتوني عميق المعرفة بمهنته، وكذلك كثير الثقافة والإطلاع. كما أنه صاحب تجربة كبيرة تظهر جليا من خلال تعاطيه مع مادته التي يحضر لها بشكل جيد جدا. وهو يختص بالمطبخ اللبناني والإيطالي لا غير، لا يقدم من غير هذين المطبخين، لا يسعى لتحقيق شمولية على حساب المعرفة والتمكن من المادة. وهو متقشف حتى في تصميم مطبخه، ويعمل على الشاشة كما لو أنه يعمل في مطبخ حقيقي بعيد عن الأضواء والديكورات المبهرة والمكلفة. في الجانب الآخر من العالم العربي، هناك بالقرب من المحيط الأطلسي، ثمة برنامج يختص بالمطبخ المغربي. هذا المطبخ الذي يعد اليوم من أفضل مطابخ العالم وأكثرها غنى وتنوعا، ليس وليد لحظة. هو مزيج من المطبخ العربي الأندلسي وكذلك العثماني التركي وكذلك المطبخ الأمازيغي التقليدي. تسعى شميشة التي تقدم برنامجها «شهيوات شميشة» إلى تقديم مطبخ تراثي بكل معنى الكلمة. وهي متخصصة في ثقافته ومكوناته وأصوله. وهي لا تحيد عن ذلك فقط لمجرد التنويع. هي هنا تتقاطع مع زيتوني الذي يقدم ما يتعلق باختصاصه. لكنها والحال هذه تسعى إلى الاستفادة من الديكورات التي يرسو عليها الطبق في النهاية. ليس بعيدا من مطبخ زيتوني وشميشة التقليديين، يتربع أسامة السيد على رصيد هام بأكبر كمية مشاهدين في العالم العربي ومنطقة الخليج. لكن أسامة السيد لا يختص بمطبخ معين، هو بحق، يقدم مطبخا شموليا بكل معنى الكلمة. هذا الأمر ليس مشكلة كبيرة لكنه والحال هذه، مربك جدا، إذ لا يمكن الابتعاد عن التخصص في هذه المهنة. ولذلك، على الأرجح فإن أسامة السيد يستعين في كثير من الأحيان بطهاة متخصصين في مطابخهم، وقد نجح في هذا الجانب كثيرا. لكن، ثمة مشكلة تواجه برنامجه حين يتعلق الأمر بتقديمه هو لأكلات من ثقافات أخرى. إذ يظهر الشيف أسامة، كما يلقب، ضعيفا غير متمكن من مادته، رغم سعة معرفته وقدرته على توليف الأطباق في النهاية. يعتقد البعض أن البرامج الخاصة بالمطبخ وفن الأكل، هي أسهل البرامج التي يمكن تقديمها على الشاشات. وهذا خاطئ، كما أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال، ولأي شخص، مهما توسعت ثقافته وقدراته المعرفية، تقديم مطبخ شمولي دون هفوات كبيرة في أغلب الأحيان. وسبب هذه الهفوات في الغالب عدم الإحاطة كليا بما يقدم، فالأكل، مرة جديدة، هو ثقافة. قبل مدة وفي برنامج الصباح على القناة الفرنسية الثانية، قدمت فقرة الطبخ للجمهور الفرنسي طريقة عمل التبولة اللبنانية، وجهدت الطاهية نفسها وهي تشرح المكونات وطريقة عملها. لكنها في نهاية الأمر زادت كمية البرغل بشكل منفر الأمر الذي جعل مقدم البرنامج الأساسي ويليام ليميرجي يوجه لها انتقادا حادا على الهواء مباشرة بأن التبولة التي قدمتها تشبه كل شيء إلا التبولة اللبنانية. هذا الأمر لا يحصل بتاتا في برامج عربية كثيرة تختص بنفس الجانب. ليس ما تقدم هنا، نقد لأسلوب الشيف أسامة السيد، ثمة كثيرون من الذين يقدمون هذه البرامج، يقعون في هذا الاستسهال. الشيف حسن كمال على قناة «الحياة» المصرية يرتكب الهفوات نفسها في أغلب الحيان، خاصة حين يقدم أطباقا لا علاقة لها بالثقافة المصرية، للمشاهد المصري، دون أن يشرح ببساطة من أين أتت هذه الأطباق أو إلى أي بلد وثقافة تنتمي على الأقل. هذا الأمر ضرب من الخلط المؤذي، وهو ضربة سيف في الماء. في أبسط جوانبه. إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار الأكل بأنه أكل فقط. ولا يمكننا بالتالي تناوله فقط لمجرد أننا نشعر بالجوع والحاجة إلى الطعام.