السمن والعسل ودقيق البر.. ثلاثي يقود المطبخ الشعبي في جنوب السعودية

«المشاغيث» سيد المائدة التراثية

«المشاغيث» تقدم كتعريف عن مدى عراقة الكرم والضيافة وتستهلك جهدا عضليا وماليا
TT

لا يزال أبناء جنوب السعودية يجدون في السمن والعسل والبر ثلاثيا يظهر عمق الكرم والضيافة، وكلما كانت الجودة والنوعية التي يكشفها المذاق عالية، دل ذلك على حسن الضيافة وقوة الترحيب من قبل العائلة المستضيفة، حيث يستخدم هذا الثلاثي في كثير من الأكلات الشعبية الرئيسية التي لم تتأثر بغزو الأطباق الغربية والشرقية، ومنها على سبيل المثال «المشاغيث»، و«العريكة»، و«المعصوبة»، و«التصابيع»، وغيرها من الأكلات التي تختلف باختلاف المنطقة القبيلة.

كان حضور الشرق الوسط لمثل هذه الموائد الشعبية التراثية منفذا لنقل تاريخ المطبخ الجنوبي المتأصل للقارئ والتعريف بالإرث القبلي المناطقي الذي لم تفنِه العولمة. يقول مشرف الكلثمي (74 عاما): «لم يتأثر موروثنا الشعبي بالعولمة، ولم نقلل من أهمية تاريخ الكرم والضيافة المتمثلة في أكلات معينة نعتبرها قاعدة قوية ننطلق منها نحو أصول الضيافة، وتعبيرا منا عن مدى أهمية الضيف لدينا، خصوصا أننا نعيش حاليا وسط تذبذب قوي قد يهدد تلك الأصالة، وهي الشح في بعض أنواع السمن البري الذي كنا نستخرجه بطريقة معينة ومن مواشينا الخاصة، كما أن زراعة بعض أنواع الحبوب التي تنتج أنواعا محددة من الدقيق أصبح يتضاءل لقلة الأراضي الزراعية، فتجد الشخص المستضيف يبحث جاهدا عن أجود أنواع العسل والدقيق والسمن ليكرم به ضيفه، ولن يرضى بالولائم دون تلك الأكلات الشعبية التي دوما تسبق الولائم في التحضير».

وعن أشهر تلك الأكلات الشعبية يذكر مشرف «المشاغيث» و«العصيدة» و«المعصوبة» و«التصابيع»، إلا أن «المشاغيث» بحسب قوله تعتبر من ألذها وأقواها من حيث الحضور على الموائد الشعبية، وعن سبب ذلك يقول مشرف: «لـ(المشاغيث) نكهة خاصة يفضلها الكثير من أبناء المناطق والقبائل الأخرى، حيث يشتهر بصنعها أبناء محافظة النماص وضواحيها، كما أن الوقت الذي يستغرق في إعداد تلك الأكلة يطول بحسب عدد الحضور ونوع المناسبة». ولتوضيح تلك النقاط يضيف مشرف بأن الدقيق المستخدم في تحضير «المشاغيث» لا بد أن يكون دقيق بر «من إنتاج مزارعنا المحلية أو المزارع المجاورة للقرية في حال انعدامه، كما أن اللبن المستخدم في عملية الطهي يجب أن يكون لبنا بقريا طازجا يستخرج من المواشي المحلية، يخلط معه القليل من اللبن الصناعي والقليل من الماء». وأضاف: «كلما كانت المناسبة كبيرة زاد عدد المتعاونات على إنجاح تلك الأكلة (المشاغيث)، بحيث لا يتجاوز عددهن الخمس، ليتوالين على تحريكه بعصا خشبية مخصصة تدعى (المسوط)، وحتى يتم توزيع الجهد العضلي على السيدات الخمس».

ولنكشف عن خفايا تلك الأكلة الشعبية (المشاغيث) توجهنا إلى أُم صالح الناشري لتضع أمامنا تصورا تعريفيا لعملية تحضير تلك الأكلة، فقالت لـ«الشرق الأوسط»: «تستعد النساء قبل المناسبة بيومين أو ثلاث أيام ليتم تقسيمه عليهن، وعادة ما يتم التقسيم بين أفراد الأسرة المستضيفة من النساء، فتتبرع إحداهن بتوفير اللبن، والأخرى تتكفل بتوفير الدقيق المطلوب، وتصاحبها إحداهن لنخله وجلب المزيد في حال دعت الحاجة، بينما تقدم إحداهن الأواني الخاصة لطهي (المشاغيث)، وهي القدور كبيرة الحجم لتستوعب كمية كبيرة من المقادير و(المسوط)، وهي عصا خشبية قوية»، وأضافت: «نبدأ منذ الصباح الباكر ليوم المناسبة بحيث نحرص على أن يأخذ اللبن وقته الكافي في الغليان ومن ثم نضيف الدقيق بالتدريج حتى لا يتكتل بحيث نتناوب على تحريكه إلى أن يصبح قوامه ثقيلا، وهذا عادة يأخذ ما بين ثلاث إلى أربع ساعات، وبعد أن يثخن نتركه على النار لمدة بسيطة حتى يحترق قعر القدر ليعطي الأكلة رائحة النضج والنكهة التي تعرف بها (المشاغيث)، وعند تقديمه يصب في أوانٍ كبيرة خاصة بـ(المشاغيث) تسمى (الصحاف)، وهي مصنوعة من جذوع الأشجار الكبيرة تحفظ درجة الحرارة وتعزز النكهة»، وأردفت أم صالح: «نضيف بعد ذلك السمن البلدي البري الذي نصنعه بأنفسنا، والعسل مع كمية من أقراص العسل على وجه (المشاغيث) ليعطي للطبق شكله الشعبي الشهي، ومن ثم نحرص على تغطيته بقطعة قماش ثقيلة تحفظه من النشافة والبرودة». ولفتت أُم صالح إلى أن هناك أكلات شعبية مختلفة تصاحب «المشاغيث» على مائدة التحضير، ومنها فطير الميفا والعصيدة مع عدد من «الطيس الشعبية» التي سبق وملئت بالسمن البري والعسل الطبيعي الأصلي.

وعن توقيت تحضير «المشاغيث» تقول أُم صالح: «نحرص على تقديم ذلك الطبق الشعبي بعد صلاة العصر مباشرة، ويحضره عادة الرجال فقط ويسمى (القدوم)، وبعض القبائل تسميه (القيول) و(الوصل)، وتختلف المسميات باختلاف القبائل والمناطق في جنوب السعودية، إلا أن مكونات الأكلات الشعبية وطريقة تحضيرها تتشابه».

وبالعودة إلى مشرف الذي أبان لنا بأن أكلة «المشاغيث» قدمت للملك عبد الله بن عبد العزيز ملك السعودية عندما قدم إلى محافظة النماص، وأثارت إعجابه عند تناولها، قال مشرف: «لا يزال ذلك اليوم خالدا في ذاكرتي، فقد اجتمع نساء المحافظة وأشهرهن في تحضير المأكولات الشعبية المختلفة وعلى رأسها (المشاغيث)، حيث تعتبر تلك الأكلة عنوانا للكرم والضيافة في المحافظة، وتعكس عراقة الإرث الذي ما زال قائما نلتزم به».

وحول أبرز المناسبات التي تقدم من خلالها «المشاغيث» قال مشرف: «تقدم (المشاغيث) في مناسبات عدة ومهمة، ويسمى توقيت تقديمها بـ(القدوم)، ومن هذه المناسبات مناسبة الزواج، في حال كان الزوج من قبيلة أو قرية أخرى مجاورة، إلى جانب من حل ضيفا على قبيلتنا وهو ينتمي إلى قرية أو قبيلة أخرى، كما أنه يقدم في حال الصلح بين قبيلتين مختلفتين، وغيرها من المناسبات الكبيرة».

على الرغم من تعدد العادات الشعبية فإن التشابه بينها يكاد يكون توافقا، وخصوصا بين القبائل والمحافظات في جنوب السعودية، التي ما زالت تحافظ على إرثها الشعبي التاريخي ليتوارثه أبناؤها ويلتزموا بمواصلة مسيرة التراث القائم.