تشارلي تروتر.. نجم الطهاة الذي انحسرت عنه الأضواء

الطاهي الذي تحدى مقولة «الزبون دائما على حق»

TT

وقف تشارلي تروتر في المطبخ المفتوح، الملحق بالمطعم الذي يحمل اسمه في شيكاغو، مرتديا زي الطهاة الأبيض المميز أمام حشد من طلاب المرحلة الثانوية. وكان الطلاب، الذين يرتدون أبهى ثيابهم والذين يجلسون أمام طاولة الطعام، من «بروفيدانس سانت ميل»، وهي مدرسة صارمة على المستوى الأكاديمي واقعة في حي إيست جارفيلد بارك ذي الطرق الوعرة في المدينة. حل الطلاب في المطعم ضيوفا على تروتر، فيما أطلق عليه اسم برنامج التميز، والذي تجري فيه، على مدار ثلاث ليال كل أسبوع، 50 أسبوعا في السنة، دعوة شباب من مناطق محرومة على قائمة تتضمن مجموعة متنوعة من الوجبات الشهية والقيام بجولة في المطعم والاستماع لمجموعة من المتحدثين الملهمين، الذين عادة ما يكون من بينهم الشيف نفسه.

وفيما كان الندلاء يترددون على الطلاب، لحمل الأطباق الفارغة وملء كؤوس العصير، كان تروتر يستمع باستحسان إلى طاه مبتدئ اسمه جيمس كابوتو، والذي كان يوضح أهمية النظام والانضباط والعمل الجماعي. وحينما أنهى حديثه، وجه له تروتر الشكر وطلب منه الانتظار لحظة. قال تروتر: «شيف، اعتمادا على مقياس من 1 إلى 10، يشير فيه 1 إلى، لا أدري، معسكر سوفياتي روسي و10 إلى السعادة القصوى، فكيف يمكنك أن تقيم العمل هنا؟» رد كابوتو قائلا: «10 بكل بساطة». وعند سماع هذا الرد، تظاهر تروتر أنه قد تعرض لإهانة. وقال: «عشرة؟ أهذا كل شيء؟» كان هذا نوعا من استرضاء تروتر، غير أنه كان أيضا إقرارا ضمنيا بالصورة التي اشتهرت عنه بوصفه مستبدا بصورة مخيفة. وعلى الرغم من أنه بإمكانه أن يكون لطيفا ومرحا جدا، فإنه لم يكن قادرا مطلقا على أن يغير المسمى الذي اشتهر به بوصفه طاغية الطعام الشهي.

في حقيقة الأمر، كانت هذه هي الصورة التي نقلت عن تروتر مؤخرا. وقد خصص جرانت أتشاتز، الشيف وصاحب مطعم «ألينيا» في شيكاغو، فصلا كاملا عن تروتر في سيرته الذاتية الجديدة، والتي حملت عنوان «حياة في خطر».

وبخلاف ذلك، نادرا ما ظهر تروتر بعدها في أحاديث خاصة بصناعة الطهي على المستوى المحلي. وفي السنوات التي قد تألقت فيها شيكاغو بعد إعادة اكتشافها من جديد كموقع لمطعم بارز، من خلال تسليط الضوء على طهاة مدربين في مطبخ الشيف تروتر، مثل أتشاتز وهومارو كانتو (من مطعم موتو) وجوسيبي تنتوري (من مطعم بوكا) وغراهام إليوت (من مطعم غراهام إليوت)، بدأت الأضواء تنحسر عن الرجل الذي وضع المدينة على خريطة الطعام الشهي.

أشار إليوت قائلا: «سأكون كاذبا لو قلت إنني لا أشعر بالحزن إزاء ذلك الأمر. أعني أنني كانت تنتابني الرغبة في الاستقالة كل يوم عملت فيه هناك، لكنني فخور بأنني تجاوزت هذه الأزمة، وبصورة ما، أنظر إلى تشارلي كأب لي. وعندما تراه يحصل على نجمتين بدلا من ثلاث ولا تجد أي مقالات مكتوبة عنه، ينتابك شعور بالحزن - تماما كمشاهدتك أباك يخسر وظيفته».

إنه مصير غريب بالنسبة لشيف أحدث تحولا في تاريخ الطهي الأميركي. كانت بداية مطعم «تشارلي تروتر» في 1987 في منزل في مدينة لينكولن بارك، وهو الموقع الذي ما زال يشغله المطعم. ومثل ديفيد بولي، الذي افتتح مطعم «بولي» في تريبيكا في العام نفسه، كان تروتر طاهيا موهوبا من أبناء الوطن والذي لم يجد مبررا يمنع مطعما أميركيا من تقديم التجربة نفسها التي يحظى بها السياح في أوروبا: قائمة شهية تضم مجموعات وجبات صغيرة متنوعة، كل منها مشهورة بكونها مبتكرة وفريدة في مكوناتها. وقد نجح بالفعل في تحقيق هذا الحلم على أرض الواقع في سن السابعة والعشرين.

إلا أن تروتر لم يتوصل مطلقا إلى الطريقة التي يمكن من خلالها توسيع نطاق مطعمه الذي يمثل علامة تجارية مميزة. لقد اعتاد أن يكون واحدا من أشهر نجوم الطهاة المتميزين في «تايم وارنر سنتر» عند افتتاحه منذ سبع سنوات سابقة، إلا أنه انسحب. وقد تم إغلاق مطعمه الكائن في منتجع في المكسيك عام 2008 بسبب انقضاء أجل عقده الذي امتد لخمس سنوات.

وفي عام 2009، تم إلغاء إقامة المطعم الذي كان من المخطط إقامته في فندق «إليزيان» بشيكاغو، كما باءت محاولة أخرى في مطعم نيويورك في برج «وان ماديسون بارك» الجديد بالفشل حينما كان منشئو هذا المبنى يحاولون إيجاد مخرج من أزمة الرهن العقاري. وتمكن تروتر من افتتاح مطعمين بفندق «بالازو» في لاس فيغاس - إلا أنه في عام 2008، ونتيجة لحدوث الأزمة المالية، تم إغلاقه في العام السابق.

وفي الوقت الذي كان يدعي فيه تروتر أنه لا تزال لديه خطط لافتتاح مطاعم في نيويورك ومدن أخرى، لكنه غير مخول له الإعلان عنها، لم يتمكن حتى الآن من افتتاح أي مطعم آخر عدا المطعم الوحيد الذي يملكه.

ربما يستنتج المرء أن تشارلي تروتر قد وصل إلى مرحلة خريف العمر، بحيث أصبح مطعمه أشبه بمطعم «لا كارافيلا» في نيويورك في تسعينات القرن الماضي: ذلك المكان الذي لا يزال يقدم تجربة ممتعة لزواره، إلا أنه بات عتيق الطراز مقارنة بالمطاعم المنافسة الأكثر حداثة. قال تروتر، وهو في حالة صدمة عند مواجهته بهذا السيناريو: «لقد استغرق الأمر مني 20 عاما كي أعي تلك الحقيقة.» وأضاف قائلا: «لكنني أفهم ذلك التصور. وما زلت أعتقد أن ما نقدمه عصري ويحتل موقع الصدارة في عالم الطعام مثلما كان دائما. وإذا أردت مقارنة ما نقدمه من أطعمة بفن الطهي الجزيئي، فإنني أرى، أننا نقدم تفاحا وبرتقالا. أما إذا قدمت أطعمتنا بأسلوب مختلف تماما، فسيقول الناس: (هذا رائع! هذا لا يمكن تصديقه!)».

يعتبر تروتر خبيرا في طهي الخضراوات. فهو يعد طبقا يبدو وكأنه شريحة من اللحم، ولكنه في حقيقة الأمر عبارة عن وجبة معدة في إناء خزفي مكونة من ثلاثة أنواع منفصلة من عصيدة الشمندر، الحمراء والذهبية والشيوجيا - والتي قد تم تفريغها في قالب، ثم مزجها مع حساء آخر مكون من الجرجير والجزر الأبيض المشوي: وجبة شهية مكونة من نباتات جذرية والتي تجمع خمس مذاقات. وتم إضفاء لمسة مبهجة على عصيدة من نبات القطيفة بإضافة نبات الهال الأخضر وقطع من الفستق الحلبي المحمص وشريحة من فاكهة الكاكي النيئة: وهو الطبق الذي يبدو للوهلة الأولى أحد أطباق جنوب آسيا الغريبة وأحد أطباق مطعم مووس وودي المرضية.

يقدم مطعم «تشارلي تروتر» قائمة طعام ضخمة تقليدية بصورة أكبر، ولكن قائمة الخضراوات - تلك القائمة الشهية دائمة التغير الخالية من أي لحوم والتي لم تكن باعثة على الملل مطلقا - هي أعظم إنجازاته في مجال الطهي.

أشار آلان ريتشمان، الذي يعمل ناقدا للمطاعم منذ فترة طويلة بمجلة «جي كيو» قائلا: «ربما تكون أليس ووترز قد اكتشفت الخضراوات، ولكن تروتر كان أول شخص أعرفه يطهوها بهذه الصورة الرائعة».

إذن، لماذا لم يخترق عالم الطهي بوصفه عملاقا يطرح أنواعا عديدة من الأطعمة التي تعد بمثابة منتجات مميزة؟ ربما تكون هناك عدة أسباب برأيه منها أنه يبلغ من العمر 51 عاما، ومر بمرحلة طفولة عصيبة. علاوة على ذلك، فقد قام بتوسيع نشاطه بطرق خفية، مثل التعرف على الوجبات التي تقدم على الدرجة الأولى ودرجة رجال الأعمال في رحلات الطيران الدولية التي تنظمها شركة الخطوط الجوية «يونيتد إيرلاينز».

وعن «تايم وارنر سنتر»، فقد تركه تروتر لأنه كان يكلفه أموالا طائلة. وأشار قائلا: «لقد كان مطعما باهظ التكلفة بدرجة مثيرة للاشمئزاز». وأضاف: «وبعدها، مع تجاوز التكاليف المخصصة للبناء، وصلت الميزانية إلى نحو 13,5 مليون دولار».

وأشار إلى أن مشروع «وان ماديسون بارك» وقع ضحية لظروف خرجت عن نطاق سيطرته. وبينما كان راضيا عن الأطعمة المقدمة في الأماكن التي يعمل بها في لاس فيغاس، فإنها لم تحظ بالشهرة المطلوبة مطلقا». فقد قال تروتر: «كنا من المفترض أن نكون عند طاولات ألعاب الورق، غير أنهم جعلونا نقف أمام فتحات إدخال العملات وأسفل طاولة متحركة». وأضاف: «ولذلك، لم نكن نحقق عائدا كافيا».

غير أنه تبقى ملاحظة ألا وهي أن هناك المزيد من العوامل التي تضيف إلى هذه الحالات من الفشل - أن تروتر كان شخصا لديه هوس بفرض سيطرته على الآخرين ويسعى للكمال، وغير مؤهل من الناحية المزاجية للتفاوض مع الآخرين والتعاون معهم. حتى صديقه، نورمان فان أكين، شيف فلوريدا، كان مندهشا، أثناء حضوره حفل عشاء خيري أقيم مؤخرا، من الفرق الشاسع بين أسلوب تروتر في الطهي وأسلوب ماريو باتالي. فقد أشار فان أكين بقوله: «كان ماريو غاية في المرح وخفة الظل، في الوقت الذي كان تشارلي يركز فيه بشدة في عمله، إلى حد أنه بدا وكأنه يرتعش من شدة القلق، وهو ما يظهر في عبارات وردت على لسانه مثل: (يجب أن تكون قطعة الفستق هذه في هذا الموضع على وجه التحديد!)».

ويشير تروتر إلى أن التحكم التام في الأمور يشكل أهمية قصوى بالنسبة له، وأن هناك تناقضا متأصلا بين طبيعة عمله - حسن الضيافة - ومدى سعيه الشديد للوصول إلى أقصى مستوى ممكن من التميز.

قال تروتر: «أتعرف المثل القديم القائل إن الزبون دائما على حق؟ حسنا، لكني أعتقد أن العكس هو الصحيح. فأنا أرى أن الزبون نادرا ما يكون على حق. ولهذا، عليك أن تحكم قبضتك على الظروف المحيطة وتلم بأدق التفاصيل: لتضمن أنهم سيحظون بوقت أفضل بكثير مما كان يمكن أن يحظوا به إذا حاولوا السيطرة على مجريات الأمور بأنفسهم».

ومن خلال وجهة النظر هذه، يجب أن يعرف تروتر أنه لن يصبح مطلقا الشيف المحبوب الذي يحظى بشعبية كصديقه إميريل لاغاسي. فما يهتم به هو صورته الدائمة التي لا تتغير بوصفه طاغية. قال تروتر بحسرة: «أحيانا أرى أنني كان يجب أن أختار خط عمل يتيح لي أن أكون وحدي في الغرفة، حيث تدخل الشمس، ولا يراقبني إلا الخالق». وأضاف: «لم أكن لأتهم مطلقا بأنني مستبد، إلا تجاه نفسي فحسب».

يصف أتشاتز في سيرته الذاتية فترة عمله غير المتقن في أول وظيفة عمل بها كعامل في مطعم «تروتر» - حيث كان يقوم بتقشير بعض ثمار الخوخ - وبركان الغضب العارم الذي أثاره ذلك لدى رئيسه، الذي كان يلقي باللوم على جميع العاملين بالمطبخ وليس على العامل الجديد المخطئ فحسب. وذكر تروتر أنه لا يتذكر هذا، غير أنه أشار إلى أنه يحتمل أن يكون صحيحا. وأعرب عنه في بعض الأحيان كان يحيط نفسه بـ«هالة من العنف» لتحفيز العمال الشباب الجدد. إلا أنه في الأساس، قال: «إنني في واقع الأمر شخص لطيف جدا»، وهي الصفة التي أكدها فان أكين.

*خدمة «نيويورك تايمز»