المذاق في إسطنبول.. من الأطعمة المتواضعة إلى أرقاها

جولة على بعض من أهم مطاعم المدينة التركية

TT

أحيانا أعتقد أنه ليس من قبيل المصادفة أن رمز الهاتف الخاص بإسطنبول هو 212. وعلى الرغم من مآذنها وشوارعها شديدة الانحدار المرصوفة، فإن بازارها الكبير ومياه مضيق البوسفور الزرقاء المائلة للخضرة التي تنساب بسلاسة عبر أنحاء المدينة يجعلان هذه العاصمة الشرقية تبدو أشبه في طابعها بولاية نيويورك.

إنك تشعر بطاقة خلاقة في الجو وأنت تشاهد السكان يجوبون الشوارع والأزقة متأبطين الأذرع. تستشعر قناعتهم بأن المدينة قد تم تصميمها لمتعتهم الشخصية. في بعض الأحيان، يكونون متجهين لحضور الحفلات الموسيقية وافتتاح المعارض أو حتى إلى عملهم فحسب. لكنهم في المعتاد يقصدون المقاهي والحانات التركية (مقاه تركية خاصة تقدم أطباقا صغيرة الحجم وسريعة) أو أي من المطاعم التي لا تحصى عددا التي تحيط بالواجهة المائية والأرصفة.

ربما يصاب زوار إسطنبول بالحيرة لدى محاولتهم تحديد أي مطعم يمكنهم أن يقصدوه لتناول الطعام. في رحلتي الأولى إلى هناك في عام 2004، كنت بصحبة صديق وزوجته التركية في رحلة ساحرة للتعرف على المطبخ التركي بدت أشبه بحلم لذيذ. لكني في هذه الزيارة (التي تعتبر زيارتي الرابعة)، تجولت بهدف التعرف على أسماء الأماكن الـ5 التي من المؤكد أنها تمتع الزائرين الجدد أصحاب الذوق المرهف في الطعام والشراب؛ مع وضع اختلاف أذواق الأزواج والباحثين عن الإثارة وذوي النزعة الصفائية في الحسبان. لكن كل شخص سيرغب في نصيحة بشأن أفضل مقهى يمكن أن يقصده، ومن هنا بدأت.

* «أسمالي جافيت»

* حينما تحدوني الرغبة في تناول مقبلات، عادة ما أختار منضدة في حانة «رفيق» التي دائما ما تكون مكتظة بالبشر، أو «سوفيالي 9»، التي تظهر وسط سلسلة من الحانات التركية الأخرى في منطقة زقاق سوفيالي في بيوغلو بالقرب من ميدان النفق. لكن في زيارتي الأخيرة، أصر صديقي التركي مهمت مراد سومر، مؤلف كتاب «مقتل القبلة» وغيره من كتب الألغاز الأخرى، أن أجرب «جافيت»، في شارع أسمالي مسجد. وبمجرد أن قضمت فطيرة البوريك باللحم المشوي (تقوم بعض الحانات الأخرى بقليها)، عرفت سبب إصراره على ذهابي إلى هناك. كانت رقائق المعجنات اليونانية تبدو هشة في مقابل اللحم الغضيض وشرائح البصل المقلية بالداخل.

ليس بالضرورة أن يكون هدفك من الذهاب إلى حانة تركية هو تناول طعام شهي، فجو الألفة يشكل أهمية أكبر. لكن «جافيت» يوفر الأمرين معا. فمن الشارع، يبدو أشبه بكوخ مرتفع مبني بشكل متقن له واجهة خشبية، ولكنه يبدو وكأنه يتسع عندما تدخله. ولوح لي مراد، مثلما يعرف، بيديه مشيرا إلى منضدة جانبية حيث كان هو ومجموعة من أصدقائه في احتفال صاخب، بينما بدأت تنهال مجموعة من الأطباق المطهية ببراعة على المنضدة: سلطة الباذنجان (حساء الباذنجان المشوي مع الباشميل) والحبار المطهي على نار هادئة واللاكيردا - سمك تن البحر الأسود المحفوظ.

تحولنا بعدها إلى الطبق الخاص الذي يقدمه ذلك المقهى وهو التوبيك، وهو عبارة عن طبق من الحمص الأرميني الحلو طيب النكهة الذي له قوام الحلاوة الطحينية السميك ذو الحبيبات الملساء. ولأنه مزين بحبات الزبيب والطحينة، كان يذوب على اللسان. وصلت أطباق السردين الساخن. كان كل طبق مصنوع من شريحتين من الفضة. وداخل الطبق، بدت أسماك السردين أشبه بعرائس بحر متلألئة. أضفنا إليها الليمون، ثم أقبلنا متلهفين على تناولها.

«أسمالي جافيت»، شارع أسمالي مسجد رقم 16/D، بيوغلو؛ (90-212) 292-4950، 70 ليرة تركية أو نحو 40 دولارا بقيمة 1.80 ليرة للدولار كمقابل وجبة لشخصين، من دون المشروبات والبقشيش.

* «أغاثا».. فندق «بيرا بالاس»

* في الربيع الماضي، أجاب كل من ييغال سكليفر (الذي كان محررا في قسم السفر بصحيفة «التايمز»)، وأنسيل مولينز، الأميركيان المغتربان اللذان أنشآ مدونة «إسطنبول إيتس»، عن سؤال تم طرحه من واحدة من زبائن المطعم: «هل يمكنك من فضلك أن تساعد صديقي الحائر (إلى جانب ملايين من الرجال الأتراك) في العثور على مكان رومانسي ليعرض علي فيه الزواج؟»، لم يكشفا عن المكان الذي اختاره مولينز نفسه ليطلب يد زوجته منذ عقد مضى، وهو «بيرا بالاس»، الفندق العثماني المبني على الطراز الفيكتوري الذي قيل إن أغاثا كريستي قد ألفت فيه روايتها «جريمة في قطار الشرق السريع». وفي ذلك الحين، كان «بيرا بالاس» بناء متهالكا على نحو جذاب. لكن في العام الماضي، ظهر بشكل مختلف تماما، بعد ترميمه وإضافة مطعم في الطابق السفلي يحمل اسم «أغاثا»، حيث يبعث في المكان سحر حسناء إبوقو. وعند هبوطك درجات سلم رخامي أبيض مؤد إلى غرفة الطعام التي تعلوها ثريات، ترى، من خلال واجهة زجاجية، أجزاء لامعة من فضة كريستوفل تعود لعام 1892، وفي واجهة أخرى، قائمة احتفال بليلة رأس السنة من عام 1924، تقدم «أنواع الحساء الباردة المنكهة بالطماطم».

وفي عام 2011، ربما يقدم «أغاثا» أعلى الأطعمة جودة في إسطنبول. في كل شهر، يبتكر الشيف التنفيذي ألماني المولد، ماكسيميلان توماي، قائمة مذاقات مستلهمة من مدينة تركية. وكان أحد أحدث عناصر الطعام التي تركز عليها هي زيوت الزيتون، المشتقة من 60 بستانا؛ حيث تقدم مجموعة مختلفة منكهة في كل طبق. وتحاكي وجبته من الخضراوات المقدمة في إناء خزفي عليه صورة من الفسيفساء على شكل شجرة ورود فرنسية، حيث تقدم محاطة بالشمندر ومغطاة بأرز السماق المتبل ومضاف إليها قطع من الجزر والقرع. وحقق نوع الزيت الحمضي الذي اختاره - لاليلي تايليلي إكسترا فيرجين - نوعا من الوحدة بين جميع المكونات. لقد نقع السلمون المملح في شاي الياسمين، وتحقق التوازن لحساء أوراق الكرمة ذي النكهة المميزة غير حاد المذاق بفضل حلوى الزلابية، قطع السوفليه المستديرة في حجم حبات الكرز، التي وصلت في طبق خاص لاقى الاستحسان قبل أن تنقع في حمام من النكهات اللذيذة. وقام بتطرية كباب السمان باللبن وغطاه بالخوخ المجفف. وبينما أبدي إعجابي ودهشتي من مدى الانسجام في الملمس والمذاق، أخذت أبحث عن الملامح التركية التي تتجسد في كل طبق. فحتى الشربات (مشروب الفواكه)، المكون من الليمون الحامض وزيت الزيتون، كان يفوح منه عبق منحدرات التل في تركيا.

«أغاثا»، فندق «بيرا بالاس»، ميسروتيت جادسي 52، تيبيباسي، بيوغلو؛ (90-212) 377-4000؛ perapalac.com.

قائمة الشيف المقترحة: 125 ليرة للفرد من دون النبيذ.

* «مونفريت»

* كل محبي متابعة أحدث الصيحات ممن يفدون إلى إسطنبول بحثا عن غرباء ممتعين مثيرين للاهتمام، عليهم التوجه إلى «مونفريت»، بالقرب من سوق الاستقلال التي تضج بالنشاط الصاخب. هنا، يجتمع الأتراك والمتجولون من مختلف بلدان العالم لتناول مشروب فريت ساربر المعروف باسم «بيلر بييراكي» المقطر 3 مرات، المعد من العنب واليانسون في معمل التقطير الخاص بأسرته في غرب تركيا، كما يمكنهم تجربة أي صنف من قائمته الرائعة، وعلى وجه الخصوص الباذنجان المقلي مع الطحينة، والكسكسي الأسود المنقوع في مداد الحبار مع الكالماري المشوي ذي اللون الأحمر المائل إلى الأرجواني. وتشمل الوجبات الرئيسية لحم الحمل المفروم المشوي مع الهندباء، وسمك القاروس المغطى بالخس مع الشمر. ولإضفاء لمسة ريفية، يقوم ساربر بتوصيل الخبز المحمص مرتين أسبوعيا، الذي يتم خبزه في فرن بالقرية في الإقليم الذي نشأ به وتقدم مع قطرات من زبد الأنشوفة الذائب.

وطوال أيام الأسبوع، يبث رواد المطعم أشواقهم لمحبيهم أمام طاولات على ضوء الشموع، وتصطف الطاولات على طول الممر الضيق المتاخم لغرفة الطعام الرئيسية في «مونفريت»؛ لكن في أيام العطلات الأسبوعية على وجه التحديد، يقوم مسؤول الـ«دي جي» الخاص بساربر بتشغيل جهاز الكومبيوتر المحمول في الحانة. ومع انبعاث صوت الموسيقى، تملأ حشود الجماهير الباحثة عن المتعة الممر، في جو يذكر بالطابع السائد في حانات لوس أنجليس وموسكو، ويبدأ طاقم العاملين في إزالة الطاولات، واحدة تلو الأخرى، إلى أن يتحول المطعم كله إلى حفل راقص. وحينما غادرت المطعم في يوم جمعة بعد منتصف الليل، كانت كلمات أغنية «آي إم إن ويذ ذي كراود» تنبعث من السماعات، ربما تكون هي الأغنية الرئيسية المميزة لمطعم «مونفريت».

«مونفريت»، فيروزها ماهاليسي، يني كارسي جادسي، رقم 19، بيوغلو؛ (90-212) 252-5067; عنوان الموقع الإلكتروني:«munferit.com.tr».

متوسط سعر الوجبة لشخصين من دون المشروبات أو البقشيش 140 ليرة.

* «سيخزادي أرزيروم جاد شيبابي» في جوهره، ليس المطبخ التركي شديد الاهتمام بالتفاصيل؛ إذ تميزه الأطعمة المنزلية البسيطة. اعتاد الرجال في إسطنبول أن ترسل إليهم أمهاتهم وجبات معدة في المنزل من الأقاليم التي يقطن فيها. وفي مطعم «سيخزادي أرزيروم جاد شيبابي»، الموجود بالقرب من السوق المصرية، جلست على مقعد بلاستيكي وطلبت وجبة «كباب» وأنا بصحبة مولينز (الذي يسافر لمدة ساعة ونصف الساعة لتذوق «أفضل طبق فول في إسطنبول»).

يتم شي لحم الحمل في مطعم «سيخزادي» على سيخ أفقي، مما يزيد من لذته. لوح لنا أوزجان يلدريم، كبير الطهاة، وانحنى عند المدخل وقدم لي سيخا من لحم الحمل، داعيا إياي أن ألتقط اللحم بأسناني. وتباهى بأن الحملان قد تغذت على الزعتر والأزهار البرية في الجبال. وتحدث بلهجة إصرار قائلا: «المذاق.. المذاق!». وبدلا من ذلك، استخدمت شريحة ناعمة من الخبز الأبيض ذي القوام العجيني للإمساك باللحم اللذيذ، وتناولته مع سلطة الطماطم والخيار والزبادي غليظ القوام المصنوع من لبن الجاموس المحلى بالليمون.

«سيخزادي أرزيروم جاد شيبابي»، سوق هودجاباسا 3/A، سيركجي؛ (90-212) 520-3361.

سعر القائمة محددة الأسعار 15 ليرة.

* «أكدنيز هاتاي سوفراسيا»

* كي أحصل على قائمة طعام أكبر ومذاقات أكثر تنوعا، استقللت الترام مع صديق تركي وانتقلت من البازار الكبير إلى مطعم مزدان بأكاليل الزهور يحمل اسم «هاتاي سوفراسيا»، الذي يقدم أطباقا ذات نكهات خاصة مميزة تشتهر بها مقاطعة هاتاي في تركيا، والواقعة على طول البحر المتوسط والحدود التركية السرية. قادنا ندلاء، يرتدون جواكت بيضاء وطرابيش، إلى الطابق العلوي، حيث أخذنا منضدة بين حشد أنيق من البيروقراطيين وزوجاتهم.

وصلت الأطعمة الشهية في تتابع سريع: سلطة طازجة من أوراق الأوريغانو المنثور عليها شرائح من الطماطم الحمراء والزيتون الأخضر؛ قمح مفتت مع قطع من لحم الحمل المطبوخ؛ وفطائر مقلية مقرمشة تعرف باسم «أوروخاسلاما»، محشوة باللحم المفروم المتبل والجوز والفلفل الحار. وهدأت أكواب ماء الورد وعصير البرتقال والرمان الطازج من حدة المذاق، وسرعان ما ظهر نادل، حاملا طبقا من اللحم البقري وكباب الحمل، المزين بالصنوبر والجوز وبذور الرمان والبقدونس. قمنا بقطع شرائح من الخبز لإعداد ساندويتشات كباب، وغرفنا حساء له قوام كريمي معد من الفلفل الأحمر والجوز، وحساء الباذنجان المشوي لإعطاء مذاق. وحضر نادل آخر يجر عربة تعلو طبقة علوية من الملح الصخري. بعدها، قام بتكسير طبقة الملح، لتظهر دجاجة مشوية كاملة كانت محشوة بالأرز المتبل بالهال وانبعثت رائحة فواحة.

لم نستطع مقاومة حلوى اليقطين المسكرة التقليدية، المقرمشة والهشة من الخارج، والمليئة بالفواكه وذات القوام الهلامي من الداخل؛ وحلوى الجوز، وهي عبارة عن جوز في قشرة، تمت تطريتها بعصير الليمون الحامض ونقعها في شراب إلى أن لكي يمكن قطعها بسكين زبد.

«أكدنيز هاتاي سوفراسيا»، أحمدية جادسي، 44A، فاتح، أكساراي؛ (90-212) 531-3333؛ akdenizhataysofrasi.com.tr.

نحو 100 ليرة مقابل وجبة كبيرة تكفي شخصين، دون حساب البقشيش. لا توجد كحوليات.

* خدمة «نيويورك تايمز»