«الطاولة المستديرة» ثاني أقدم مقهى في فرنسا

أكثر الشهود عراقة على ما جرى قبالة قصر العدل في غرونوبل

من أهم عناوين الأكل في مدينة غرونوبل الفرنسية
TT

لم يكن على غرونوبل في عام 1739 أن تكون مدينة كبرى أو مؤثرة في فرنسا، لم يكن أيضا يقدر لها أن تحتل صفحات الجرائد المحلية والدولية، وأن تذكر باعتبارها مهد انطلاقة شرارة الثورة الفرنسية، الثورة التي لا يزال عبق مبادئها يفوح لغاية اليوم، من خلال دخولها محليا في كل شيء من التعليم إلى السياسة إلى الاجتماع، وصولا إلى عقلية الفرنسيين، التي كلما وقع ما يستدعي ثورة، ولو صغيرة، ضد السياسيين أو أصحاب العمل أو القوانين التي تعتبر جائرة فإنها تتحرك فورا كما لو أنها متأهبة أساسا للقيام بثورة. غرونوبل بهذا المعنى لم تعطِ الفرنسيين مشعل الثورة فقط، وإنما كان لتحرك العمال والفلاحين فيها ضد الجيش والملك في قصر العدل في غرونوبل. في ظهيرة اليوم السابع من يونيو (حزيران) عام 1788 كان الدافع الذي حرك البلاد برمتها، فانقضت على الحكم الظالم مطالبة بالحرية والانعتاق والمساواة بين الجميع. وما أشبه اليوم بالأمس، ففي العالم العربي قامت ثورة في واحدة من كبرى المدن وأكثرها عراقة، القاهرة، التي قبالة متحفها الشهير قامت ثورة أيضا، لكنها ما زالت وليدة وتحتاج إلى الكثير من الوقت. وربما سيأتي أحد الكتاب يوما ما ليؤرخ لسيرة هذه الثورة من خلال تاريخ المتحف الذي شهد عليها بكل تفاصيلها.

أحد أكثر الشهود عراقة على ما جري قبالة قصر العدل في غرونوبل في ذلك اليوم هو مقهى «الطاولة المستديرة» الذي افتتح في عام 1739 كثاني مقهى يفتتح في فرنسا بعد مقهى «بروكوب» في باريس 1684. في فترة سابقة لهما كان قد افتتح مقهى في مرسيليا في عام 1671، وكان وراء فكرته الشاعر الإيطالي بياترو ديللا فال، لكنه مع الأسف لم يعمر، وأغلق بعد فترة وجيزة، فترك صاحبه الإيطالي المدينة ليغادر إلى بلاده ويفتتح هناك أحد أشهر المقاهي فيها لغاية اليوم. بعده مباشرة، أي في عام 1672، افتتح مقهى «باسكال» في باريس قرب جسر نوف، لكنه مع الأسف لم يحافظ على نفسه منذ ذلك الوقت وأغلق، ودعت الحاجة ربما صاحبه الأرمني إلى إغلاقه. لذلك فإن مقهى «بروكوب» في باريس و«الطاولة المستديرة» في غرونوبل يعتبران أقدم مقهيين في أوروبا حاليا ومن الأقدم في العالم، طبعا مع تسجيل أن المقاهي بدأت كموضة في إسطنبول - الأستانة أيام السلطنة العثمانية في القرن الخامس عشر. لكن مع هذا لا نعرف كم عدد المقاهي التي لا تزال تفتح أبوابها في المدينة منذ ذلك التاريخ. ويسجل للمقهى الباريسي وكذلك لـ«الطاولة المستديرة» عدم إغلاق أبوابهما سوى في فترات الحروب الطاحنة والمدمرة، وغير ذلك فلا يزالان يعملان بنفس الروتين ونفس الطريقة ونفس المهنة.

في ذلك العام، 1739، قرر السيد كوديه، وكان أحد أهم مصعني المربيات في المنطقة، أن يفتتح متجرا لبيع الخمور مع زميل له كان يملك محلا خلف مبنى البلدية القديم الذي تفصله عن الساحة والمحل كاتدرائية سانت أندريه. وكان ذلك الحي هو قلب المدينة في ذلك الزمان.

لا تختلف قصة هذا المقهى عن قصة القهوة في رحلة دخولها إلى فرنسا، فهي دخلت عن طريق سفير الباب العالي سليمان آغا في بلاط لويس الرابع عشر الذي كان يدعو بعض رجال وسيدات المجتمع المخملي إلى شقته الباريسية ليضعهم في أجواء ألف ليلة وليلة. وقد لاقى هذا المشروب في ذلك الحين استحسان النساء الأرستقراطيات مما زاد في طلبهن عليه.

قبل ذلك التاريخ لم تكن الثقافة الفرنسية قد عرفت المقاهي، فكان الفرنسيون إما يذهبون إلى المطاعم وإما إلى الأوبيرج، وهو مكان يجمع ما بين الجلوس للتحدث والشرب وكذلك المأكولات الخفيفة إلى جانب المثلجات (الآيس كريم) وطبعا مع تقديم بعض أصناف الحلويات التقليدية التي كان يختص بها أهل ذلك الزمان. وكانت المشروبات بالطبع كلها كحولية. ومن الأمور التي تستحق الذكر أن القهوة كمشروب منشط لا تزال تعتبر وفق القانون الفرنسي ضمن المشروبات الكحولية بحسب قانون صدر في أواخر القرن السابع عشر، وهو لم يتغير لغاية اليوم، حيث يعتبر القانون أن القهوة هي المشروب الوحيد الذي لا يدخله الكحول لكن وبغياب أي تصنيف علمي له فهو يدرج ضمن قائمة هذه المشروبات. والغريب اللافت أن القهوة لم يتغير تصنيفها بحسب القانون على الرغم من أنها أصبحت المشروب الأكثر شعبية في فرنسا منذ بداية القرن العشرين، بالإضافة طبعا إلى ولع الفرنسيين بالنبيذ الفرنسي الذي لا يزال هو المعبر عن الثقافة الفرنسية، وخصوصا ثقافة المائدة.

مقهى «الطاولة المستديرة» الذي افتتحه المسيو كوديه في النصف الأول من القرن الثامن عشر، بعد حصوله على أمر ملكي وقانون خاص، لا يزال يعمل كمقهى. نادرة هي الأماكن، خصوصا التجارية منها، التي تستمر كل هذا الوقت في نفس المهنة. الحياة تتغير حكما وتتبدل، عاصر هذا المقهى شرارة الثورة الفرنسية التي حصلت قبالته تماما، فقط نحو سبعين مترا فصلت بينه وبين التحرك الأول الذي أشعل الثورة الفرنسية، عاشها وشهدت جدرانه على الخضراوات والبيض الذي كان يرمى على رجال الملك ورجال الجيش، وشهد أيضا على مقتل الثوار الأوائل الذي صنعوا مجد الحرية في فرنسا. في الحقيقة إن هؤلاء الفلاحين صنعوا ما هو أكثر من مجد فرنسا، لقد صنعوا ثقافتها التي تعتز بها. هم في النهاية مجموعة من الفلاحين وصغار العمال. كما شهدت على من أكثر حملات نابليون شهرة وهي الحملة على روسيا، يومذاك، مرت جيوش نابليون من غرونوبل، تماما من الطريق المقابل لمبنى البرلمان القديم على نهر الإيزير الذي يقسم المدينة في عدد من أحيائها. وقد سمي منذ ذلك الوقت الطريق الذي سارت عليه الجيوش بشارع نابليون. هذا المحل وكذلك الأبنية المجاورة له عاشت عن حق تاريخ فرنسا الذي كان يعبر من أمامها.

لا يعد غريبا بهذه الحال الشرح الذي قدمه جان بيار بوكار، المالك الحالي، عن معنى اسم المقهى، الذي يعني مبادئ الثورة الفرنسية. فالدائرة تعني الحرية ووسط الطاولة يعني المساواة، في حين يعني الجلوس على كل الجوانب الأخوّة، وهي مبادئ الثورة الفرنسية التي تعتبر اليوم شعار الجمهورية.

كانت ساحة سانت أندريه في ذلك الوقت أشهر ساحات المدينة، ففيها يقع البرلمان وكذلك مبنى المحكمة والكاتدرائية إلى جانب مبنى البلدية الذي تواجهه أكبر حديقة عامة في المدينة إلى جانب افتتاح المسرح الوطني في عام 1768 الذي لا يزال كذلك يعمل كمسرح منذ ذلك الوقت، ولعبت على خشبته كل المسرحيات التي أبدعها كبار الكتاب في فرنسا والعالم. نشوء المسرح قبالة المقهى لجهة اليمين جعل المقهى وجهة للممثلين والكتاب والمثقفين قبل وبعد المسرحيات، فجلس فيه أكثر من مرة جان جاك روسو والموسيقي الشهير أنطوان رونارد صاحب «أوقات الكرز»، وهي من أشهر المقطوعات الموسيقية، كما كان يجلس فيه بشكل دائم هيكتور بيرليوز الموسيقي الشهير على مستوى العالم، وكذلك الجنرال جان بابتسيت برنادوت الذي أصبح في ما بعد ملكا على السويد. لكنه كجنرال خدم طويلا في الجيش الفرنسي وقد عيّنه نابليون الأول برتبة مارشال فرنسا، وهي كانت في ذلك الوقت من أرفع الرتب العسكرية. أما أشهر نزلاء المقهى فكان الأديب الفرنسي ستاندال الذي كانت له طاولة خاصة يجلس عليها يوميا، فالمقهى لم يكن يبعد عن بيته سوى مائة متر تقريبا.

أما من أدباء فرنسا في القرن العشرين فقد جلس في المقهى الكثير منهم، مثل لوكليزيو الحاصل على نوبل 2008. إلى جانب عدد من الكتاب والممثلين مثل كاثرين دونوف وجيرار ديبارديو وغيرهما، إضافة إلى أسماء من الموسيقيين لا يمكن حصرها، وكل ذلك بسبب أن المالك الحالي للمقهى جان بيار بوكار كان قد دأب منذ شرائه المقهى في عام 1972 على إقامة حفل موسيقي واحد كل أسبوع، وقد جذب هذا التقليد كل فناني فرنسا من شارل أزنافور إلى الفرق المحلية الصغيرة. هذا التقليد جعل جان بيار بوكار يؤسس جمعية تختص بالعزف في المقاهي في كل أنحاء فرنسا وبسعر زهيد لكي تدخل الموسيقى الحية إلى المقاهي، وهو يفعل هذا بعدما تخلى عن إدارة المقهى لولديه.

تعاقب على إدارة هذا المقهى عدد من الملاك، لكنّ أحدا منهم لم يغير طبيعته أو ديكوراته وإنما كان يقيم بعض التحسينات البسيطة إلى جانب التنظيفات والترميم. فالمبنى الذي يقع فيه المقهى بني في منتصف القرن السادس عشر، ما يجعله بحاجة إلى بعض أعمال الصيانة بين الحين والآخر. ومن الملاك يذكر المالك الحالي جان بيار بوكار أو المؤسس كان المسيو كوديه - 1739، تبعه فلاندران - 1758، وجينو - 1797، وبيرتراند - 1810، وشارييار - 1830، وتوتان 1870. ويختفي من الصحيفة العقارية للمقهى أسماء الملاك بين الأعوام 1870 و1910 ليعاد ظهور الملاك مع جيرار - 1910، وفواسون - 1920، وغاشيه - 1930، وبولوني - 1941، وروو - 1945، وبوتينيون - 1965، وبوكار منذ عام 1972 ولغاية اليوم. وبهذا يكون المقهى قد سجل عمليا رقما قياسيا في الحفاظ على ديمومته رغم تغير الملاك.

لم يغلق هذا المقهى أبوابه سوى في الحالات الاستثنائية. فمنذ افتتاحه أغلق للمرة الأولى عدة أشهر في الحرب العالمية الأولى، لكنه عاود نشاطه سريعا وأعاد للساحة المقابلة التي يتوسطها تمثال الفارس بايار، ثم تم إغلاقه من قبل الجيش النازي في الأعوام 1943 - 1944 لأنه كان مقرا لأعضاء المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي. كما أقفل سبعة أشهر فقط في بداية عام 1972، وفي ما عدا هذه التواريخ فإن المقهى لم يقفل أبوابه قط.

يعتبر هذا المقهى اليوم أحد أشهر الأماكن التاريخية في غرونوبل، وهو يعمل منذ ساعات الصباح حتى ساعة متأخرة من الليل، كما أنه لا يفرغ من رواده لا صيفا ولا شتاء، وكذلك تعتبر أيام السبت والآحاد وكذلك أيام الأعياد من الأيام التي يعتبر فيها العثور على طاولة من كرسيين أمرا شبه مستحيل.

العنوان الإلكتروني:

http: - - www.restaurant - tableronde - grenoble.com - fr_FR -