التفنن بالورد والباذنجان.. من المنازل إلى المعامل إلى مائدة المستهلك

السوريون يحولون الفاكهة والخضار إلى مربى

أبو عدنان الحموي.. بدأ في تصنيع المربيات الدمشقية منذ عام 1934
TT

لم تصدق (سوزي) الطالبة الفرنسية العشرينية التي جاءت لدمشق لتعلم اللغة العربية في مركز تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها بجامعة دمشق، نفسها وهي تتذوق نوعا من المربى اشترته ضمن «مرطبان» زجاجي من أحد المحلات القريبة من مكان سكنها.. إنها تتذوق الورد الدمشقي الجوري وتأكله على شكل مربى حلوة الطعم لذيذة المذاق، فاضطرت للعودة إلى صاحب المحل لتسأله بعربية ركيكة: «هل حقيقي هذا مربى من الورد؟» ليجيبها البائع مبتسما «نعم صحيح.. وهو من إنتاج مدينة حلب»، ولكن كيف حصل ذلك، فالورد يتحول إلى عطر.. فكيف حوله الحلبيون إلى مربى؟

سؤال منطقي والحق مع سوزي في استغرابها.. يعلق البائع الذي روى لنا الحكاية!.. فالمتعارف عليه ومنذ عشرات السنين تحويل معظم أنواع الفاكهة التي تجود بها الطبيعة في غوطة دمشق وبساتين حلب ومزارع ضفاف العاصي في حماه وحمص إلى مربيات حيث كانت النساء في منازلهن يعملن طيلة مواسم الفاكهة في الأسواق السورية على تحويلها إلى مربيات وتناولها في فصل الشتاء والفصول الأخرى على مائدة الفطور أو العشاء إلى جانب الزبدة والجبنة البلدي، أو دهنها على الخبز وتحويلها إلى ساندويتش يحمله التلميذ معه إلى المدرسة في حقيبته ليتناوله بين الحصص الدراسية. ومع إقبال الكثيرين على تناول هذه المربيات قبل عشرات السنين تحول تحضيرها وتصنيعها من المنازل إلى المصانع الغذائية حيث عمل العديد من السوريين على إنشاء المعامل لتصنيع المربيات إلى جانب الكونسروة المعلبة (الفول والحمص والطماطم وغيرها) وصاروا يصدرونها للبلدان المجاورة ولغيرها.

ولم يكتف السوريون بتحويل الفاكهة إلى مربيات بل عملوا على تحويل بعض أنواع الخضار القابلة للتحول إلى مربى فنتج معهم مربى الباذنجان اللذيذة الطعم والتي لا تقل بمذاقها اللذيذ عن مربيات الفاكهة وعملوا على تحويل القرع أيضا الذي اشتهر كمجففات إلى مربيات ذات مذاق رائع، ولكن الحلبيين المعروفين بتفننهم وابتكاراتهم في مجال الطعام والمطبخ والحلويات عملوا قبل سنوات ومن خلال سيدات البيوت على تحويل الورد والأزهار إلى مربى ونشروه في كل المدن السورية وحتى العاصمة حيث تلقفه العديد من المصنعين فضموه إلى باقة منتجاتهم من المربيات التي يزيد عددها على 13 صنفا.

والورد الذي يقطف من الأشجار يتم تحويله إلى مربى. تشرح لـ«الشرق الأوسط» سيدة منزل حلبية عرفتنا على نفسها (أم عامر سلقيني) موضحة «أقوم بإحضار مستلزمات مربى الورد وهي ورق الورد الجوري الأحمر البلدي (بتلات الأزهار) وثمار الليمون الحامض حيث نستخلص عصيرها مع السكر والماء البارد، وفي التفاصيل - تتابع أم عامر - نقوم بوضع أوراق الورد في قدر معدنية ونغمرها بالماء البارد ونضيف عصير الليمون الحامض ونترك الورد في القدر حتى يصطبغ الماء بلون الورد الأحمر بشكل جيد ومن ثم نقوم بوضع أوراق الورد في مصفاة حتى نستخلص الماء منها بشكل كامل، وبعد ذلك نضع السكر في القدر ونضيف الماء المستخلص من ورق الورد والمضاف له عصير الليمون بمقدار دقيق ونترك الماء يغلي على موقد النار ثم نضيف إليه أوراق الورد المصفاة وندعه على نار هادئة لمدة نصف ساعة حتى يتحول لقوام لزج ونتركه يبرد ليعبأ فيما بعد في مرطبانات زجاجية وليؤكل هنيئا مريئا». وهناك أيضا من يحول بتلات زهر الليمون إلى مربى بنفس طريقة تحويل بتلات الورد الجوري.

محمد الحموي (أبو عدنان) الرجل التسعيني الذي تخصص بتصنيع المربيات من الفاكهة منذ أكثر من ستين عاما من خلال ورشة صغيرة وبعدها معمل متطور في ريف دمشق، يعرض منتجاته في دكانه الذي خصصه لبيع المربيات في ساحة المرجة الشهيرة وسط دمشق منذ عام 1950، وقبله في دكان له بسوق علي باشا المجاورة منذ عام 1934، شرح لـ«الشرق الأوسط» تاريخ وكيفية تحويل الفاكهة إلى مربى قائلا: «منذ طفولتي أتذكر أن والدتي كانت تحضر لنا المشمش وغيره كمربى، وأعتقد أن فكرة تحويل الثمار التي بدأت من المشمش إلى مربيات انطلقت من الشام في أواخر القرن التاسع عشر ومن خلال المنازل لتصبح في المصانع في خمسينات القرن العشرين».

يبدأ عادة موسم صنع المربيات من الفاكهة في بداية صيف كل عام من خلال أولى الثمار التي تنضج وتنزل لأسواق الهال، وهي عادة ثمار المشمش التي يعمل السوريون على تحويلها إلى مربى بأشكال متنوعة ومنها القطعة الواحدة أو الشرائح أو المهروسة ويتم تحويلها إلى قمر الدين (المشمش المهروس المجفف) الذي يتحول لعصير لذيذ المذاق في شهر رمضان المبارك ويباع عادة مغلفا على شكل طبقات مستطيلة بسماكة محددة حيث يفتخر الحموي - كما يؤكد لـ«الشرق الأوسط» بأنه أول من عمل على تحويل قمر الدين من شكله المتمدد الكبير إلى شرائح منزلية مستطيلة صغيرة نسبيا (بشكل باكيت)، وذلك في عام 1938 وقد انتشرت الباكيت فيما بعد في كل المدن بالشكل الأنيق المغلف.

تختلف عادة عمليات تحويل ثمار المشمش - توضح أم عامر سلقيني - إلى مربى حسب الشكل المطلوب مع تشابه المستلزمات وتتم عملية التحويل بالشكل التالي: «تنتقى عادة ثمار المشمش من السوق من الأنواع الطازجة ويفضل البعل منها وتغسل جيدا وتنزع النواة من الثمار وتقطع ثم توضع في إناء بلوري بشكل فني متقن مع السكر بحيث توضع على شكل متبادل (طبقة مشمش وفوقها طبقة سكر وهكذا دواليك) ويترك على هذا الوضع لمدة عشر ساعات حتى يصفى الماء من المشمش ثم يؤخذ الخليط ليوضع في قدر ويغلى على نار هادئة مع التقليب المستمر حتى يذوب السكر تماما ويضاف له عصير الليمون الحامض ويظل على النار حتى يتحول لقوام لزج متماسك، بعد ذلك يرفع عن النار ويترك ليبرد ويوضع في مرطبانات زجاجية. وفي حالة مربى المشمش (ثمرة كاملة) تثقب الثمار وتوضع كما هي لتجفف تحت أشعة الشمس ثم تخضع للمراحل السابقة».

من الثمار التي تحول لمربيات أيضا وحسب مواسم نضجها ونزولها للسوق.. هناك الكرز والفريز والدراق والخوخ والتين والسفرجل والتفاح وحتى ثمار النارنج والكباد.. أما الخضار فيتم اختيار الأنواع المناسبة لتحويلها إلى مربيات أيضا، ومنها بشكل خاص الباذنجان والقرع والجزر.

وتتشابه عمليات ومراحل تحويل هذه الثمار والخضار إلى مربيات من حيث المستلزمات مع فروقات بسيطة، ففي ثمار الكرز تنتقى عادة من الأنواع الحمراء المائلة للسواد والطازجة وتغسل جيدا وتنزع منها الأنوية ويوضع عادة السكر مع الماء على النار حتى يغلي جيدا ويضاف إليه حبات الكرز ويترك لمدة نصف ساعة حتى يتحول لقوام لزج وتوزع حبات الكرز جيدا في السائل وتنزل لأسفل الإناء ولا تطفو على سطحه، بعدها نضع قليلا من عصير الليمون الحامض ويترك الخليط على النار لمدة عشر دقائق ليرفع عن موقد النار ويبرد ويوضع في أوعية زجاجية. أما ثمار التين فتحول إلى مربيات بنفس طريقة الكرز ولكنها تحتاج لوقت أطول على النار لكي تتمازج. في حين تتشابه طريقة تحويل ثمار الفريز إلى مربيات مع طريقة تحويل ثمار المشمش.

وفي مجال الخضار، فإن طريقة تحويل القرع إلى مربى تحتاج لجهد كبير ووقت طويل - توضح أم عامر - ولذلك لا تشاهد مربيات القرع إلا في المنازل بينما أصحاب المصانع لا يقبلون على تصنيعها للجهد الكبير والوقت الطويل ويعمل البعض على تجفيفها فقط، وتمر عملية تحويل القرع إلى مربى بمراحل عديدة حيث يتم «تقطيع ثمرة القرع الكبيرة الحجم عادة (وزنها يتراوح بين 2 و15 كيلوغراما)، وذلك بعد تقشيرها وتترك جانبا بعد تقطيعها إلى مكعبات ونأتي بكلس متحجر (الكلس ضروري حتى تنجح عملية التحويل وتقسو قطع القرع وتتصلب) ويوضع في الماء حتى يذوب ويصبح الماء مكلسا، بعد ذلك ننقع مكعبات القرع في الماء المكلس لمدة 5 - 7 ساعات ثم تزال من ماء الكلس وتغسل جيدا وتصفى بمصفاة، ونقوم بعد ذلك بوضع السكر في القدر ونغمرها بالماء بمقدار ضعف كمية السكر ونتركه يغلي ونضع مكعبات القرع في القدر لتغلي مع السكر والماء لمدة نحو 5 ساعات، ثم يضاف عصير الليمون الحامض مع استمرار غليانه على النار لتتحول مكعبات القرع إلى اللون الذهبي البلوري الشفاف، بعد ذلك نتأكد من أن القرع قد أصبح جاهزا للتناول ولكن بعد تبريده بالتأكيد - تضحك أم عامر - حيث يعبأ في مرطبانات زجاجية».

وفيما يتعلق بالباذنجان وتحويله إلى مربى، فهو أيضا كحال القرع يحتاج إلى جهد ووقت طويل وإلى الكلس ليقسو ويؤكل صلبا، حيث يتم تقشير ثماره وإزالة أقماعها وعادة تنتقى الثمار ذات الأحجام الصغيرة، وبعكس القرع توضع الثمرة كما هي ولا تقطع (هي بالأساس صغيرة جدا - تبتسم أم عامر)، وتنقع الثمار بماء الكلس لوقت أقل من القرع، وتترك ثمار الباذنجان نحو 3 ساعات فقط.