رحلة البحث عن أصل قهوة الإسبريسو في إيطاليا

«كافيه فلورين» افتتح عام 1720 في ساحة سان ماركو وهو أكثر المقاهي عراقة في ايطاليا

فلورنسا مدينة عصر النهضة لا تشتهر فقط بقصورها وفنانيها وإنما أيضا بأنواع القهوة التي تقدمها أو كعك «تيراميسو» المصاحب لها
TT

تعد زيارة إيطاليا لعاشقي قهوة الإسبريسو من أمثالي مثل رحلة حج، حيث يبحث محبو الكافيين عن أجوبة يعبرون بها حاجز الزمن واللغة والثقافة من أجل زيارة موطن القهوة. إنها ليست رشفة من بئر إسلامية مقدسة، لكن ينقل ذلك المشروب العلماني محبيه إلى السماوات فقط حتى يزول التوتر.

تنتشر الأماكن المقدسة في أنحاء إيطاليا، حيث يوجد في كل مدينة التقليد الخاص بها بالنسبة للقهوة، ورأيت أن التقيد بواحدة أو اثنتين، مثل الإصرار على تناول قهوة منزوعة الكافيين، لن يكفيني. وكما لا يكفي محبي الشواء التنقل بين ولايتي شمال وجنوب كارولينا، بل يجب عليهم الذهاب إلى ولاية ميسوري وتينيسي وتكساس من أجل الاستزادة بالمعرفة الخاصة باللحوم، فلن أكتفي في جولتي بتناول جرعات قليلة من القهوة الإسبريسو في روما.

لقد قمت باختيار أماكن أستطيع أن أحصل فيها على أنواع مختلفة من القهوة والثقافة معا بدءا من القنوات المائية في فينيسيا، ثم الانتقال إلى ساحات فلورنسا ومرورا بشوارع روما المزدحمة، وصولا إلى الساحل المتعرج بمدينة نابولي، في محاولة لفك شفرة الكابتشينو في موطنه؛ هل من الممكن أن يؤدي الحصول على الكثير من الكافيين إلى الوصول إلى الكشف الروحاني؟ لقد قررت أن أكتشف ذلك في كل رشفة.

يقطع صوت غناء أصحاب الزوارق الصمت المطبق الذي يغلب على مدينة فينيسيا. ويذكرني هذا الصمت المخيم على المدينة الخالية من السيارات بأنني في رحلة بحث، حيث أحاول أن أتخيل التجول في تلك الأزقة منذ 400 عام مضت، عندما وصلت القهوة للمرة الأولى إلى المرافئ مع البهارات المقبلة من بلاد العرب وأفريقيا. وقد تم افتتاح أول مقهى في القرن السابع عشر، وإن اختلف الناس حول المكان والزمان.

يظل أكثر المقاهي عراقة هو مقهى «كافيه فلورين» في ساحة سان ماركو حيث كان مزارا لقهوة الإسبريسو والمعجنات حلوة المذاق منذ عام 1720، حيث يتألق اللون الذهبي على الأسطح الموجودة بالداخل وينعكس على رغوة الكريم برائحتها القوية التي تطفو على سطح الفنجان. تلك كانت رشفتي الأولى في الرحلة التي ظننت دون يقين كامل أنها قد تحمل بهدوء كشفا يغير حياتي.

لقد كان كشفا حتى وإن كان مختلفا عما كنت أبحث عنه. وتدل المرارة التي أجدها في هذا الفنجان على أن حبات البن قديمة، وتم تخميرها بإهمال، مخلفة مذاقا يشبه قهوة الروبستا أو قهوة من نوع أقل جودة تمتزج بقهوة الإسبريسو الخفيفة اللامعة. يبدو أن خيبة الأمل هذه ستعاود الظهور مرة أخرى لقيام الإيطاليين بخلط قهوة الروبستا بالإسبريسو من أجل زيادة الكريمة، مما يأتي للأسف على حساب النكهة.

تتناقض الخدمة المتدنية التي تتسم باللامبالاة مع ثراء المكان، مما يجعلك تشعر وكأنك سائح علماني يزور كنيسة للقهوة.

لحسن الحظ بدت فينيسيا أكثر تواضعا، حيث يقع «توريفياتسيوني ماركي» على مقربة من حي اليهود، وهو مقهى ومحمصة في الوقت ذاته. ويستقر المقهى بين متاجر الجزارة المزدحمة ومطاعم البيتزا، حيث تزدحم تلك البقعة الدافئة بجيران وأصحاب متاجر يتحركون، ويتناولون القهوة مع قطع البسكويت المحمصة قبل توديع بعضهم سريعا.

تساعد ماكينة تحميص موجودة في المخزن النادل على توفير قهوة واحدة أصلية، بالإضافة إلى خلطات حسب الطلب، مثل الخلطة شبه السرية لقهوة كافيه ديلا سبوزا، وهي خليط من البن من 8 أماكن مختلفة. ما طلبته كان قهوة كولومبية يمتزج بها اللون البني والكستنائي، التي يسيل لنكهتها اللعاب. وبعد ثلاث رشفات، خرجت من الباب سريعا، أستعد لكوب الإسبريسو التالي، والمقهى التالي، والمحطة المقبلة في رحلتي.

لطالما مجّد محبو الزيتون زيوت إقليم توسكاني، مما يجعل فلورنسا مركز الذوق الرفيع. وينطبق الشيء نفسه على قهوة الإسبريسو، حيث يهدأ الطعم اللاذع للأنواع المختلفة من القهوة حلاوة الشوكولاته في الفنجان، مع نكهة المكسرات المحمصة، مثل الفول السوداني، والتي تشبه نكهتها الفول السوداني المطعم بالتوفي، ونعومة تذكرنا بزيت الزيتون الشهي حول الطاولات.

تذوقت في فلورنسا للمرة الأولي قهوة إسبريسو دولتشي، «القهوة الحلوة» المحمصة التي تخلق توازنا بين الطعم الحلو والمر تعبيرا عن الثقافة المزدوجة للبلد. وتجد هنا مصممي الأزياء وتتنافس التماثيل الأثرية في جذب انتباه السياح في الميدان نفسه، وتتعايش المطاعم الراقية في سلام مع المقاصف حيث تكفيك 5 دقائق تتكئ فيها على منفذ البيع للحصول على قهوتك الإسبريسو ومعها ثرثرة. وتمثل فلورنسا بتمسكها بالماضي ومواكبة الحاضر، إيطاليا دائمة التغير، حيث يتأقلم الناس وتتماشى الأذواق بسهولة مع كل ما هو جديد دون التخلي عن التقاليد.

وعلى الرغم من أنه لا يوجد شيء خاص يميز العاملين في مقهى «كافيه سكودييري»، فإن تمكنهم من إعداد القهوة يعوض ذلك التجهم المرتسم على وجوههم ضجرا من السياح (كما تفيدهم أيضا تلك التشكيلة اللانهائية من الفطائر المحشوة بالكريمة). وتعتبر الشوكولاته باللبن واللوز من النكهات السائدة هناك، حيث تستخدم في إعداد قهوة الإسبريسو الرائعة أو، عند إضافتها إلى اللبن المغلي، كابتشينو الإفطار اللذيذ. وأنا شخصيا أشعر براحة تامة مع تلك الرغوة الناعمة وأنا أرتشف فنجان الصباح وأتأمل في أناقة الإيطاليين المقبلين من كاتدرائية «دومو» القريبة، التي تعد أفخم كاتدرائية في المدينة، بينما أجلس على مقعدي أمام المشرب الرخامي. وما زال المقهى، الذي تغمره أشعة الشمس، يحتفظ ببعض السحر الكلاسيكي الذي يعود إلى بداياته في عام 1939، وهو مثالي جدا لمحبي الحلويات؛ فعلى الرغم من توافر السلطات المالحة وخبز البانيني، فإن الكعك المحلى المغطى بالسكر وأصناف تورتات الفواكه المسكرة تعد أفضل مكمل للإسبريسو اللذيذ والديكور الأنيق.

وعلى مسافة خطوات من «سكودييري»، يوجد مقهى آخر على الطراز الفلورنسي ثري بتاريخه وأيضا بسمعته، وهو مقهى «جوبي روسي»، الذي افتتح في ساحة «بياتسا ديلا ريبابليكا» في نهاية القرن التاسع عشر، وقد اقتبس اسمه من القمصان الحمراء التي كانت تختال بها القوات الليبرالية أثناء إحدى حملات الوحدة الوطنية. وما زال العاملون بالمقهى يرتدون زيا مكونا من سترات قرمزية تكريما لهذه الحملة.

وهناك على الأقل عامل واحد ليبرالي، في ابتسامته على الأقل، حيث قال مبتسما ابتسامة مشرقة، وهو يناولني فنجان الإسبريسو الخاص بي: «هذا مقهى شهير. هل تعرفونه في أميركا؟ هذه هي القهوة الإيطالية الشهيرة».

ويبتسم النادل ابتسامة عريضة، بينما كنت أرتشف آخر رشفة، موجها انتباهه إلى الزبون التالي، الذي جاء يطلب فنجان «كافيه كوريتو»، وهو الإسبريسو مضاف إليه نفحة من المعسلات المركزة. وابتسامته هذه تبرهن على أن جمال فلورنسا لا يقتصر دائما على أنواع القهوة التي تقدمها (أو كعك «تيراميسو» الحلو الذي يأتي معها).

الحج لا يكتمل من دون زيارة حرم أو ضريح مقدس ما، وروما تعج بكليهما، مثل سراديب دفن الرهبان الكبوشيين، وهذا هو أصل تسمية الكابتشينو، حيث كان هؤلاء الرهبان المتنسكون، الذين ينتمون إلى أحد مذاهب الطريقة الكاثوليكية الفرنسسكانية، يرتدون قلنسوة بنية ذات غطاء للرأس كعلامة على طريقتهم (وما زالت حلقة الكريمة برونزية اللون التي تحيط بالرغوة البيضاء أعلى الكابوتشينو تسمى غالبا «رأس الراهب»، تشبيها لها بذلك الرداء التقليدي).

وللوصول إلى سرداب الدفن، تبعت أحد الكهنة الكبوشيين إلى كنسية سيدتنا مريم الخاصة بطائفة الكبوشيين، التي توجد بها جثامين 4 آلاف قس مرتبة بطريقة زخرفية، وبعض الهياكل العظمية ما زالت ترتدي عباءات بلون القهوة. وهذا المدفن هو أثر من آثار أحد التعاليم الدينية الذي كان يمنع الدفن التقليدي تحت الأرض داخل أراضي الأديرة.

ولا تحكي العظام أي قصص، وكذلك عمال مقاهي روما، ولا يتجلى هذا في أي مكان أكثر مما يتجلى في مقهى «سانت أوستاكيو إل كافيه»، الذي يتمتع بأساليب وأنواع قهوة متميزة للغاية، إلى درجة أنك لا ترى السقاة وهم يقدمون الشراب تلو الآخر للزبائن الجالسين في حالة من النعاس (ومنذ افتتاحه في عام 1938، يقال إن هذا المشرب يقدم 4 آلاف فنجان إسبريسو يوميا).

وتقول اللافتات المعلقة في أنحاء المقهى: «تقدم القهوة من دون سكر حسب الطلب». وربما يكون بإمكانك أن تطلب إضافة نفحة من الجعة المرة إلى القهوة في موطنك، ولكنك هنا ستضيع الفرصة من بين يديك: فأي وصفات خاصة يتم تحضيرها وراء الستار تؤدي إلى نتائج لذيذة، وأفضل شيء هو أن تثق في ذلك العامل المتمكن الواقف عند ماكينة إعداد القهوة. وتختلف الكريمة الرقيقة على سطح هذا النوع من قهوة الإسبريسو، التي تشبه المرنغ تقريبا، عن أي قهوة إسبريسو أخرى تذوقتها، وعلى الرغم من أن هناك لمسة من الحلاوة، فهي لا تغطي أو تؤثر على نكهة الكستناء المحمص القوية الموجودة في القهوة.

وجانب من السر في هذا هو أن المزيج المكون من حبوب البن العربي تامة النضج ذات الرائحة النفاذة ما زال يحمص على الحطب على طريقة الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، مما يمنحه مذاقا مميزا لا يختلف في نكهته عن البقع السوداء التي توجد على قشرة البيتزا المثالية. هل هناك جانب آخر؟ أشعر بأن عمال المقاهي لو أخبروني به، فسوف يضطرون إلى قتلي كي يدفنوا السر معي. وبدلا من ذلك، يسعدني أن أكتفي بأن أفعل كما يفعل أهل روما: «بالسكر، من فضلك».

في اختلاف تام عن ذلك البريق المرحب بالسياح في المدن التي تركتها ورائي، تعد مقاهي نابولي نماذج للآلات البشرية المملوءة بالوقود؛ فمراقبة عمال المقاهي هنا تشبه مشاهدة سيارات أنيقة أثناء تجميعها في أحد خطوط الإنتاج. فالسقاة في المشرب (الذين يكونون في الغالب من الذكور) لا يتحركون بدقة تامة فحسب، بل إن ماكيناتهم تعد أيضا معجزات صناعية، فأي مقهى في نابولي يستحق ما به من حبوب البن ما زال يعد قهوة الإسبريسو باستخدام ماكينات غريبة الشكل تدار بذراع طويلة، ويقوم العمال بدفع وجذب الأذرع المعدنية الطويلة في تعاقب سريع لدرجة أنها تبدو كما لو كانت تعمل بكباس. ومع أن نابولي قد لا تكون قصة جميلة نحكيها، مثل فينيسيا، يبدو أنها تجعلني أبتسم حرجا حينما أرتطم بالأهالي، الذين يتدافعون للفوز بأفضل موقع داخل المشرب.

ويلخص مقهى «كافيه مكسيكو» في الحي التاريخي إيقاع المدينة وطرازها المعماري، حيث يتحرك نادلان رشيقان ذهابا وإيابا وهما يقدمان الخدمة لسيل متواصل من الزبائن؛ من تسجيل طلبات وتقديم ماء عادي أو فوار ووضع إضافات الإسبريسو، في حركة انسيابية مستمرة واحدة. لكن هذه الحركة لا تشبه رقصات الباليه بقدر ما تشبه تدريبا عسكريا، حيث يرتدي السقاة ما يشبه زي البحرية الكامل، بما في ذلك شرائط الزينة الذهبية المجدولة على الأكتاف.

* خدمة «نيويورك تايمز»