من سوق لتصنيع الأحذية إلى «مركز الطبخ الشامي»

مأكولات شعبية يتفنن فيها أشهر الطهاة في سوق الجزماتية

طبق المقادم من الأكلات الشامية التقليدية و أمعاء الخروف محشوة بالأرز والبهارات الخاصة
TT

في سوق الجزماتية الرابطة ما بين باب مصلى وسط العاصمة السورية دمشق وحي الميدان جنوب دمشق، في هذه السوق التي كانت، حتى النصف الأول من القرن العشرين، شهيرة بانتشار ورش تصنيع الأحذية الطويلة الساق (الجزمات)، وتحولت ورشها ودكاكينها الواسعة في النصف الثاني من القرن العشرين إلى مطاعم ومطابخ عامة فلقبها الكثيرون منذ ذلك التحول النوعي بـ«مركز الطبخ الشامي»، توجد أشهر مطاعم دمشق الشعبية التي تقدم المأكولات الدمشقية العريقة والمقبلات، كالفول والمسبحة والتسقية وغيرها، وتضم هذه المطاعم أمهر طهاة البلد.

هذه السوق لا تنام، فمطاعمها تعمل على مدى 24 ساعة على مدى أيام الأسبوع، إذا زرت هذه السوق فستلاحظ عبارة تكتب على عدد كبير من المطاعم تفيد بتوفر أكلة «القشة» بمختلف أشكالها وأنواعها وطرق طهيها من المسلوقة والمقلية وفتّات المقادم والرأس، وإذا ما قرر الزائر دخول هذه المطاعم للاستفسار وتناول هذه المأكولات قبل الثانية ظهرا، فسيعتذر منه أصحابها قائلين له إن تقديمها لن يكون قبل ما بعد الظهر، وهي متوفرة على أي حال حتى ساعات الليل.

هذا الجواب سمعناه فعلا من أحد أصحاب هذه المطاعم، مبررا ذلك بأن القشة أكلة صعبة التحضير، وتحتاج لساعات لتجهز، وهي بالأساس وجبة لمائدة الغداء، والفتّات للعشاء وليس للفطور. ويضحك صاحب المطعم وهو يوضح لنا - بعد أن لاحظ الاستغراب باديا على وجوهنا لتأخر تقديم هذه المأكولات - أن ما يقدمه في مطعمه ليس وجبة فول مثلا تؤكل كفطور، بل هناك أجزاء من جهاز هضم الخروف وأرجله ورأسه ستحضّر لتؤكل كوجبة دسمة، «فهل يعقل أن تقدّم في الصباح مثلا؟»، يسألنا صاحب المطعم ليزيد من برهانه تأكيدا على أسباب التأخر في تقديم هذه الوجبة الغذائية الدمشقية الشعبية.

ننتظر في مطعمه الفارغ من الزبائن نحو الساعة من الزمن فيما يتحرك طباخوه وطهاته في الداخل بشكل متسارع كأنهم يسابقون الزمن لتحضير القشة، وعند الساعة الثانية من بعد الظهر بدأ الزبائن والذواقة بالتوافد، ومنهم من حجز طاولة له، فيما طلب آخرون إعداد بعض أنواع القشة بطريقة تطلق عليها «سفرية»، أي سيأخذها الزبون إلى منزله.

يطل علينا شخص يتضح من معالمه أنه المتخصص بتحضير وطهي القشة، حيث الإجهاد واضح على قسمات وجهه، يعرفنا عليه صاحب المطعم، إنه الطاهي المتخصص بالقشة (محمد أبو علاء) الذي يبدأ مباشرة بتقديم شرح عن أكلته المتخصص في تحضيرها، فهي تحتاج لتخصص وليس كل طاه قادرا على إعدادها، يوضح أبو علاء: القشة أكلة دمشقية قديمة وكانت تلقب بـ«أكلة الدراويش»، حيث يستغنون بها عن اللحم المرتفع الثمن، ولكنها حاليا أصبحت أكلة الجميع، أغنياء وفقراء، بسبب تنوع مذاقها ولذته، وانتشرت من دمشق إلى بعض المدن السورية، وخاصة مدينتي حلب وحماه، فأطلق عليها الحمويون اسما آخر وهو «السختورة»، وتحضر عادة القشة من كل ما يمكن الاستفادة به غذائيا من الخروف بعد أخذ اللحم والدهن منه، وبالتالي تتضمن القشة عادة: أمعاء الخروف الدقيقة ونسميها محليا «السجقات»، ومعدته وتسمى «القبوات»، وأمعاءه الغليظة «الكرش»، ولحمة الرأس والنخاع «المخ»، وأرجله «المقادم».

ولكن ما هي المراحل التي تمر بها هذه الأجزاء حتى تتحول لوجبة غذائية دسمة؟ مراحلها كثيرة وصعبة ومجهدة - يتنهد أبو علاء - فلكل جزء طريقة خاصة بالإعداد والطهي، فمقادم الخروف على الشكل التالي: في البداية وبعد الحصول عليها من الخروف المذبوح حديثا في المسلخ تخضع لعملية نطلق عليها اسم «المسمط»، حيث توضع في الماء الساخن لتنظيف هذه الأجزاء من الشعر، ثم تخضع لعملية تنظيف دقيقة يتم من خلالها نزع الشعر، وتنقع في وعاء من الماء الساخن نحو أربع ساعات لتخرج المواد الدسمة منها، بعد ذلك تبدأ مرحلة الطهي في وعاء آخر، وتضاف البهارات والمنكهات، مثل ورق الغار وحبات الهيل، ولتصبح جاهزة للتناول بعد أن تصبح طرية، وتبقى فيها الأعصاب فقط، حيث تذهب العضلات منها أثناء الغلي في المرحلة الأولى، وبمذاقها اللذيذ وفوائدها الصحية والغذائية الكثيرة، ومنها بشكل خاص لمن يعاني أمراض الروماتيزم ونقص الكالسيوم، نحصل على أكلة رئيسية تقدم على مائدة الغداء، حتى إن الأطباء يرسلون بعض مرضاهم إلينا - يبتسم أبو علاء - ليشربوا مرقة المقادم، فهي مقوية للأعصاب وللعظام.

الجزء الثاني من القشة هي «السجقات أو المصارين»، أي أمعاء الخروف الدقيقة، وتحضيرها يحتاج لمهارة من قبل الطاهي - يتابع أبو علاء - ففي البداية يتم تنظيف الأمعاء التي نحصل عليها من الخروف تحت صنبور الماء لتخرج منها كل المخلفات الموجودة في الأمعاء الدقيقة، وتحتاج عملية التنظيف لساعتين، نقوم بعدها بقلب العرق الواحد «المعي» بشكل معكوس وينظف من الدهون، لتنطلق مرحلة حشوه بالأرز واللحمة والبهارات، وطهيه على النار، وتستغرق عملية الطهي نحو ثلاث ساعات.

الجزء الثالث «القبوات»، أي المعدة والأمعاء الغليظة التي تسمى «الكرشة»، تخضع لمرحلة التنظيف بشكل دقيق لتزال الحراشف عنها، ولتسلق فيما بعد على النار لمدة ثلاث ساعات، ومن ثم تحشى بالأرز واللحمة، وتخاط بخيوط قماشية دقيقة.

الجزء الرابع هو لحمة الرأس - يوضح أبو علاء - ويتم استخلاصها بمراحل شبيهة بمراحل تنظيف وتحضير المقادم، حيث نأتي برأس الخروف ونزيل عنه الشعر بعملية المسمط مع الماء الساخن، بعد ذلك يسلق الرأس النظيف لمدة ثلاث ساعات. يستخلص لحم الرأس حيث نغليه في البداية لإزالة الدسم عنه، ومن ثم نخضعه للطهي من خلال سلقه في الماء وعلى النار لمدة ربع ساعة فقط، مع إضافة ورق الغار له, ويؤكل مع الخبز وحده أو على شكل فتة أو سلطة رأس التي نضيف لها البندورة المقطعة والبقدونس وعصير الليمون الحامض.

هناك وجبات لذيذة تقدم من بعض هذه الأجزاء ألا تريد أن تأخذ فكرة عنها؟ - يسألنا أبو علاء مبتسما - حيث يطلبها الكثير من الزبائن، وهي الفتات، ومنها: فتة المقادم وفتة الرأس. بالتأكيد نريد أن نأخذ فكرة عنها، قل لنا كيف تحضر إذن هذه الفتات؟ يضحك أبو علاء الواثق من معلوماته وخبرته التي تمتد لعشرين عاما، والتي تعلمها وورثها عن والده الذي عمل لسنوات طويلة في طهي القشة: تحضر من خلال إعداد التتبيلة في البداية التي تتكون من اللبن والطحينة والثوم، ونأتي بالخبز المقطع إلى قطع صغيرة متساوية توضع في أسفل الوعاء مع قليل من التتبيلة، ومن ثم تضاف لها المقادم أو لحمة الرأس وتضاف التتبيلة للمرة الثانية فوقها، والبعض من الطهاة لزيادة النكهة والمذاق اللذيذ يضع على وجه الفتة السمن البلدي والصنوبر، كما يمكن وضع البقدونس على الوجه لفتة الرأس فقط، ولا توضع لفتة المقادم، ويؤكل عادة بجانب الفتة المخللات.