«الجانرك» الثمرة التي تبشر بقدوم الربيع

يعتبر أبا الخوخ الأوروبي وأخذ اسمه من مدينة دمشق

الشوام أضافوا الجانرك المخلل إلى قائمة المخللات الشهية المذاق والجانرك أبو الخوخ الأوروبي
TT

مع قدوم فصل الربيع من كل عام، وخاصة بعد منتصف شهر أبريل (نيسان) وحتى منتصف شهر يونيو (حزيران)، ينتظر السوريون، وخاصة الفتيات منهم، بكثير من اللهفة انتشار ثمار «الجانرك» الخضراء اللون على عربات الباعة الجوالين وفي أسواق الشعلان والهال القديم وباب سريجة، وغيرها من أسواق الخضار والفاكهة الشعبية الدمشقية، ليتسابقوا على تناولها، بل يتباهى بعضهم في أحاديثه بأنه تمكن من شراء ثمار الجانرك بحجم كبير على الرغم من سعرها المرتفع، وكما يتسابق عشاق الجانرك لشرائها فإن الباعة هم بدورهم يتسابقون لاقتنائها لعرضها أمام دكاكينهم بمختلف أحجامها، فمنها الصغير والوسط والكبير (الفحل) كما يطلقون عليه، ويعرضونه بشكل متميز للفت نظر المتذوقين للجانرك، كما يتسابق الباعة على عرضه بشكل متميز، مع حرصهم على وجود الوعاء الممتلئ بملح الطعام الناعم على أحد جوانب عربتهم، حيث يرشونه على الجانرك لزيادة لذة مذاقه، ويبيعه البائعون الثابتون في دكاكينهم بمختلف الأوزان، وحسب طلب الزبون، فإن الباعة يبيعونه على عرباتهم عادة بأوزان قليلة (لا تتعدى مائتي غرام) للزبون، والسبب هنا أن أغلب زبائن باعة العربات هم من العابرين والمتسوقين، وخاصة الشباب والصبايا، حيث يتناولونه مع الملح وهم يتمشون في الأسواق، أو على الأرصفة وعلى مقاعد الحدائق العامة.

والجانرك الذي يعتبر أحد أصول ثمار الخوخ ويقطف عادة بلونه الأخضر قبل أن يتحول إلى خوخ طعمه حامض، يقبل الكثير من الناس على تناوله، وحسب الباعة والمهتمين فإن النساء والفتيات الشابات، بشكل خاص، هن الأكثر إقبالا على شراء وتناول الجانرك بسبب حموضته التي تمنحهن شعورا بالحيوية والنشاط، ولذلك يتناولنه في أي وقت من النهار والمساء، فيما يفضل الرجال تناوله مرة واحدة فقط مع طبق الثمار المسائي بعد الاستيقاظ من قيلولة العصر، وقبل احتساء قهوة المساء.

وعلى الرغم من أن الجانرك لا يستخدم سوى كفاكهة موسمية ولأسابيع قليلة، حيث يتحول مذاقه الحامضي بعد ذلك إلى مذاق حلو مع تغير في لونه من الأخضر إلى اللون الأصفر، فإنه عادة يؤكل مع الملح الذي يكمل مذاقه اللذيذ، فيما لا يمكن تناوله بالملح بعد أن يميل طعمه للحلاوة. على الرغم من ذلك فإن «الشوام» بمهارتهم المعروفة في التعامل مع الفاكهة والخضار بعدة طرق، فإنهم عملوا على تخليله بشكل متقن، بحيث انضم الجانرك المخلل إلى العديد من ثمار الفاكهة التي يخللونها، وبات يباع مخللا في أوان زجاجية مغلقة في أي وقت من العام، وحسب إبراهيم اللحام، أحد محضري المخللات في سوق باب سريجة الشعبي الدمشقي، فإن نجاح تخليله يعتمد على قساوته وحموضته، وليس حجمه، إذ يمكن تخليل الجانرك ذي الحجم الوسط والكبير، ولكن سيتغير مذاقه قليلا مع تخليله.

ويرى الباحثون والأطباء أن للجانرك العديد من الفوائد الصحية والغذائية، فهو غني بالماء والألياف الغذائية ومضادات الأكسدة وفيتامين C، والمعادن، كالبوتاسيوم والماغنسيوم والفوسفور، ولذلك - وحسب الباحث الدكتور منير أبو شعر - فإن الجانرك يعتبر سناكا صحيا لذيذا يؤكل بين الوجبات بسبب قلة محتواها من الوحدات الحرارية والسكريات، لكن مع الانتباه لعدم الإكثار من رش الملح عليه للمحافظة على قيمتها الغذائية، وتجنبا لتأثيرات الملح السلبية على الصحة، أما فوائد ثمار الجانرك فهي أنها تحسن الشهية، وتنشط عملية الهضم، وتعزز المناعة، بسبب محتواها على فيتامين C، ومضادات الأكسدة، كما أنها تلين الأمعاء وتنظفها من الفضلات، وبالتالي تكافح الإمساك وتحمي الجهاز الهضمي من المشكلات السرطانية بسبب محتواها من الألياف الغذائية ومضادات الأكسدة، ومن فوائدها أيضا أنها تحسن المزاج وتشعر بالسعادة والحيوية، بسبب وجود المغنسيوم، وتضبط الضغط الشرياني لمحتواها من البوتاسيوم، كما أنها مدرة للبول ومفيدة للوقاية من أمراض الكلى. وينصح الباحثون بعدم الإفراط في تناول الجانرك لأنه قد يسبب الانزعاج الهضمي والإسهال بسبب محتواه الكبير من الألياف الغذائية.

والجانرك في الجانب العلمي التاريخي الذي يطلق عليه اسم الخوخ الكرزي (Cherry plum) أو خوخ الميروبلان (Myrobalan or cherryplums) كما تسميه بعض المراجع بـ(p.domestica var. myroblan) فيما تعطيه معظم المراجع الاسم العلمي وهو (P.cerasifera)، وحسب الباحث الأكاديمي الدكتور نزال الديري، فإن الجانرك يستخدم كأصل لكل أصناف الخوخ الأوروبي والياباني، كما يعتقد البعض أن الجانرك هو أحد أبوي الخوخ الأوروبي (P.domestica) وأن موطنه الأصلي هو بلاد القوقاز وغرب آسيا، وقد انحدرت منه عدة أصناف لا بأس بها، ومنه أيضا الأصل المعروف باسم ماريانا Mariana.

ومن المفارقات هنا بالنسبة للجانرك الذي يعتبر أبا الخوخ الأوروبي الذي يعود تاريخ انتشاره لما قبل ألفي عام، فقد دعاه العالم Pliny قبل مئات السنين باسم Damascus المشتق من اسم مدينة دمشق Damascus، وبعد ذلك عرف باسم خوخ Damason، وهو أحدث قليلا من الخوخ الأوروبي الآخر المسمى P.insititia، والذي ورد ذكره على لسان شعراء اليونان في القرن السادس قبل الميلاد.