«العهد الجديد».. مطعم للأكلات الشعبية بمذاق القاهرة الفاطمية

أجواؤه التراثية المبهجة تعيدك لرائحة بيت العائلة الكبير

«العهد الجديد».. عنوان المأكولات الشعبية اللذيذة
TT

عبر مدخل يعيدك فور اختراقه إلى العصر الفاطمي وأجوائه، يستقبلك مطعم «العهد الجديد» في حي الحسين بروائح الأكلات المصرية الشعبية التي تفوح من كل جوانبه، وتشكل تناغما حيا مع إيقاع الحي بصفته أحد أهم المقاصد السياحية الشعبية بالقاهرة.

يرفع المطعم شعار «أكل لكل الناس»، ويعززه بأجواء تعطي إحساسا بالحميمية وتشابه الدخول لمنزل العائلة الكبير الذي يحتضن الجميع، فتجد المطبخ دون مواربة يعمل فيه الطهاة بجد، وينهمكون في إعداد ما لذ وطاب من حمام محشو بالفريك وفتة الكوارع والسمان المشوي الذي تخلب رائحته الألباب. ليس من السهل أن تحجز لنفسك طاولة؛ إذ إن المطعم يزدحم بزبائن من جميع الجنسيات، وتسمع فيه لغات أجنبية ولغة عربية بلكنات من شتى أرجاء الوطن العربي. وما إن تعثر على طاولة في أي طابق من طابقيه، سيطوف عليك النادل بقائمة الطعام الشهية المحيرة. حيث يتسابق الجميع في «العهد الجديد» لإرضائك، فقبل أن تطلب أي شيء ستجد من يتهافت لكي يقول لك «أوامرك» كما لو كنت سلطانا في أساطير ألف ليلة وليلة. الكل هنا خلية نحل.. لا فارق بين أحد، الكل يسعى بشدة لإرضائك، وقبل أن ترفع يديك لتطلب خدمة، فستجد من يلبيها لك بكل سرور.

ويرفض أصحاب المطعم الحديث عنه، معتبرين أنهم لا يفضلون الحديث ما دام أن المطعم به زبائن، فتلبية طلباتهم أهم من أي شيء. وعلى الرغم من أن المطعم صمم ليحاكي المباني الأثرية القديمة التي تجسد القاهرة منذ مئات السنين ويحفل بها حي الحسين، فإننا صدمنا عندما عرفنا أنه حديث نسبيا، فقد تم افتتاحه عام 1951، وشيد ليكون مطعما، كما قال لـ«الشرق الأوسط» الحاج محمود عامل الخزينة، مضيفا: «صاحب المطعم الحالي الدكتور محمود عبد القوي اعتزل مهنته طبيبا ليتفرغ لإدارة المطعم عقب وفاة والده الحاج عبد القوي مؤسس المطعم، وقد سماه بذلك قبيل ثورة 1952 وكأنه تنبأ بما سيكون عليه الوضع في مصر. وقد افتتح (العهد الجديد) فرعه الثاني منذ اثني عشر عاما بمدينة نصر شرق القاهرة». ومنذ إنشائه، اشتهر (العهد الجديد) بتقديم الكوارع وحسائها، فضلا عن الكرشة واللسان والعكاوي والفتة بلحم الرأس وفواكه اللحوم (الحلويات)، يضاف لها الخبز البلدي المغلف بالردة، وإن كانت أطباق المطعم تضم حاليا أصنافا مستحدثة مثل الشاورمة والمعكرونة، والشيش طاووق وغيرها لإرضاء أذواق الجميع، حيث إن الأجيال الجديدة لا تقبل على تناول الكوارع، كما ذكر الحاج محمود.

قائمة الطعام الخاصة بـ«العهد الجديد» ترضي كل الأذواق، وما يميزها أنها تتضمن ما لذ وطاب من الأكلات المصرية «البيتوتية»، فهناك مثلا طواجن الخضراوات والمحاشي بأنواعها وشوربة الكوارع بالخضراوات، وأصناف من البط والحمام المحشو والفراخ المشوية، وما ننصح بتجربته في «العهد الجديد» هو السمان المشوي اللذيذ الذي يمكنك تناوله بسعر زهيد ومذاق شهي. المثير للانتباه هو التباين بين مرتادي المطعم، وهو أمر ساعدت عليه جودة أطعمته وأصالتها الشديدة التي تجذب السائحين من ناحية، وأنها إلى حد كبير في متناول الطبقات المتوسطة المصرية من ناحية ثانية. ويقدم طهاة المطعم نصيحة لزبائنه: «الطعم الشهي واللذيذ يكون بإضافة التوابل وليس بكثرة الدهون»، في أجواء تسودها الحميمية.

ديكور المطعم يشبه البيوت العربية الإسلامية وقد طعمت أرجاؤه بزخارف ونقوش عربية.. يبرز ذلك في الطابق السفلي حيث توجد صالتان للطعام كلتاهما تزينها لوحات وصور بأسلوب الكولاج للفنان ياسر جعيصة، وهذه اللوحات ما هي إلا أغلفة لأعداد قديمة من صحف تعود إلى بدايات القرن العشرين، فنجد صورة من مجلة «المصور»، وأخرى من صحيفة «الأهرام» وثالثة من جريدة «الكشكول»، وغالبا ما يكون هذا المكان المفضل للقاءات العمل والسائحين، أما الطابق العلوي، فتفضله العائلات. ويتميز الطابق العلوي برحابته؛ فهو عبارة عن قاعتين كبيرتين. ولعل أكثر ما يميز «العهد الجديد» هي تفاصيل وديكورات المطعم التي تلمس فيها تميز المكان، فالثريات المعلقة في المدخل محفور عليها أسماء الله الحسنى، إلى جانب الأثاث المشغول بالأرابيسك والصدف، التي تجعلك تظنه متحفا إسلاميا. أيضا مما يميز «العهد الجديد» وجود ركن خاص للأطفال ومكتبة للطفل بها العديد من الكتب العربية والإنجليزية، كما يوجد بهذا الركن مأكولات محببة للأطفال ومنها البيتزا والساندويتشات بأنواعها.

لينا وغابرييل سائحتان ألمانيتان حضرتا ضمن الوفد السياحي المكون من نحو خمسة عشر فردا واصطحبهم المرشد السياحي محمد ياسين، لذا قام العاملون بضم مجموعة كبيرة من المناضد لتتسع لهم جميعا، تناولت لينا لحم الجدي «النيفة» بشهية كبيرة، وأبدت إعجابها بالأجواء الشرقية في المطعم الذي كان محطتها الأولى منذ وصلت الفندق الذي تقيم فيه قبل ساعات، أما غابرييل، فأبدت إعجابها بالطعام وأيضا بابتسامة الود والترحيب التي لاقتها من الجميع. أما زين الريس، فهو محاسب سعودي من جدة وزائر دائم للقاهرة، وقال إنه يتناول الفتة ولحم الرأس في «العهد الجديد» منذ حضر إليه أول مرة قبل خمسة وعشرين عاما، وأضاف أن زيارة المكان لها عنده أهمية كبيرة مثل تدخين الشيشة في مقهى «الفيشاوي»، وتقول زوجته غدير التي تعمل بالتدريس إنها تعرفت إلى المطعم عن طريق زوجها وأصبحا يأتيان إليه معا كلما حضرا للقاهرة.

ويعتبر «العهد الجديد» مكانا مفضلا للعديد من المشاهير والشخصيات العامة بحسب أحمد؛ أحد العاملين بالمطعم، ولكنه لم يفضل الإفصاح عنهم حفاظا على خصوصيتهم. ويمكنك بعد الاستمتاع بعشاء شرقي أصيل الاستمتاع بأجواء حي الحسين المتميز بالمقاهي الشعبية والتجول في خان الخليلي. وحتى لا تكون فلكلورية المكان مصطنعة، فإن الفاتورة تكتب بخط اليد وليس آليا، ويتم الدفع عند موظف الخزينة الذي يهدي الزبائن نتيجة (تقويما) للشهر مزينة برسوم مثل تلك المنتشرة في أرجاء المطعم والمصحوبة بأبيات من الشعر، وتشتمل البطاقة على عنوان موقع المطعم الإلكتروني وهو الأمر الذي دخل بالمطعم لعصر الإنترنت، كما يحصل المغادرون على هدية من نبتة خلة الأسنان الطبيعية. لكن على الرغم من كل ذلك، فإن المطعم لا يوجد به هاتف أرضي وغير مقيد بدليل الهواتف المصرية، ولا يقوم بتقديم خدمة «الديليفري»، فمن يرد تذوق الطعام الشرقي الأصيل، «يجب أن يجربه هنا وسط اللمة» حسب ما قال الحاج محمود. ويستطرد الحاج محمود بابتسامة صافية: «نعتمد في العمل مبدأ: (خليها على الله)، فعلى مدى سنوات عملي الطويلة، صادفت كثيرا زبائن يتناولون الطعام ثم لا يقومون بدفع الحساب.. (يقول مبتسما) اللي عايز حاجة خليه ياخدها. نحن لا نخشى الخسارة.. فالبركة من عند الله».