«المدرسة الصديقة».. الحلم الذي اصبح حقيقة

مبادرة تعليم البنات في مصر بلغت سنتها الرابعة

طالبات مدرسة صديقة الفتيات بقرية الجمهورية يؤدون النشيد الوطني صباح كل يوم بمصاحبة الألات الموسيقية
TT

فاطمة رجب البالغة من العمر تسع سنوات والتي تقيم مع عائلتها في «قرية الجمهورية» بمحافظة الفيوم (90 كيلو جنوب غربي القاهرة)، لم تكن تعرف المدرسة قبل عام. سألتها لماذا؟ فأجابت: «أخذني والدي الى المدرسة الحكومية، فقالوا له: دي ما تنفعش».

لكن فاطمة نفعت وبدأت تفك «طلاسم» الأحرف الابجدية وان بصعوبة. وهي تملك حاليا الارادة لتكمل تعليمها مع «أبلة» سماح عبد الناصر، وذلك من خلال مشروع المدرسة الصديقة الذي انطلق في مصر قبل اربعة أعوام في إطار مبادرة لتعليم البنات شاركت فيها منظمة «اليونيسيف» وسبع منظمات تابعة للأمم المتحدة بالتنسيق مع المجلس القومي للطفولة والامومة، اضافة الى فريق قومي يضم في عضويته ثماني وزارات وعددا من الجمعيات الأهلية ومؤسسات قطاع المعلومات وفرقا محلية تطوعية وشركاء آخرين من مؤسسات القطاع الخاص ممن ساهموا في تمويل هذه المبادرة وتشجيعها لإنجاحها على رغم التحديات الكثيرة والكبيرة.

وتقول الدكتورة ملك زعلوك، رئيسة قسم التعليم في اليونيسيف في مصر لـ«الشرق الأوسط» ان «المبادرة انطلقت من منظور حقوقي يكفل حق التعليم لمستحقيه من الفقراء في المناطق الأكثر حرمانا، خاصة الاناث، دون أي نوع من أنواع التمييز. وتبنت هذه المبادرة أسلوب التعليم النشيط في المدارس الصديقة. وهي تهدف الى إكساب الفتيات مهارات حياتية أساسية مطلوبة للمساهمة الفعالة في التنمية. وذلك من خلال تحويل مقررات وزارة التربية المصرية للمرحلة الابتدائية الى أنشطة جذابة تساعد الاطفال على التعلم الذاتي». وتضيف: «الاقبال على المدارس في الارياف أفضل منه في المدن. الناس يتحمسون أكثر، لا سيما عندما يتعلق الامر بالعمل التطوعي. وضعنا نصب اعيننا انشاء 1047 مدرسة صديقة للفتيات بحلول العام 2007. وقد نجحنا في ذلك. وتم الحاق 31410 فتيات في الفئة العمرية من ستة اعوام الى ثلاثة عشر عاما».

لكن الحاجة فرضت على المدارس الصديقة للبنات قبول البنين في صفوفها بنسبة لا تتجاوز 25% من كثافة الفصل. وشملت هذه المدارس «العزب والنجوع» في سوهاج واسيوط والمنيا وبني سويف والفيوم والجيزة والبحيرة. وفي الفيوم يبلغ عدد هذه المدارس 195 مدرسة تضم في صفوفها 5576 تلميذة و162 تلميذا.

ماذا بعد المدرسة الصديقة؟ هل يتابع التلاميذ تحصيلهم في مدارس نظامية أم هي محطة عابرة؟

تجيب الدكتورة زعلوك: «لا خوف على الاطفال من الضياع في النظام التعليمي التقليدي. قبل المدرسة الصديقة كان لدينا نموذج رائد عام 1992 من خلال «مدارس المجتمع»، الذي سد الفجوة التعليمية في مناطق الصعيد. تلاميذ هذه المدارس وصلوا الى المرحلة الجامعية. وهذا العام ستتخرج الدفعة الاولى منهم. نحن بنينا على هذه التجربة الناجحة القائمة على مدرسة الفصل الواحد».

«التعليم هنا أفضل من المدرسة الحكومية». هذه الجملة يرددها ذوو التلاميذ في «عزبة الغابة» في كوم اوشيم التي تضم حوالي ألف نسمة. يقول العامل الزراعي في العزبة مجدي ثابت رزق: «ظروفنا سيئة. وأنا على باب الله. أعمل يوما واتوقف أياما حسب الرزق. لا أستطيع تحمل مصاريف المدرسة الحكومية التي تبعد ثلاثة كيلومترات عنا حيث أقرب مدرسة تقع في عزبة عاشور التي افتتحت قبل عدة سنوات فقط. يستغرق الوصول اليها نصف ساعة من السير على الطريق العام. يعني كان على اولادنا ان يمشوا ستة كيلومترات يوميا ما يعرضهم الى خطر السيارات العابرة والى المطر والرياح والمرض. قبل ذلك كانت المدرسة الأقرب تبعد 12 كيلومترا. كيف كنا سنتمكن من تعليم اولادنا لو لم يفتحوا لنا المدرسة الصديقة بين بيوتنا؟».

لا مشكلة في التمييز بين البنت والصبي لدى مجدي. «لكن المشكلة كانت في عدم توفير الظروف الصحيحة. في فصل المدرسة الحكومية يصل عدد التلميذات الى 60. كيف كن سيتعلمن؟ الحمد لله توفرت هذه الظروف مع المدرسة الصديقة. التعليم في هذه المدرسة حلو ففي الفصل 24 تلميذة فقط. والمربيات يتابعن البنات بأسلوب حلو. نحن نثق بهن». وما يزيد ثقة مجدي وجيرانه أن إحدى المدرسات أبلة نور «أدخلت ابنها شريف الى المدرسة مع اولادنا لأنها تعرف ان التعليم هنا أفضل منه في المدرسة العادية. ولا مانع لدي من أن تكمل ابنتي تعليمها حتى الجامعة عندما تكبر». ابنة مجدي فيفي التي تبلغ الرابعة عشرة من عمرها، التحقت بالمدرسة قبل اربعة أعوام. وقد نجحت لدى تقديمها شهادتها الرسمية الاولى. تجربة سناء أكثر نضجا. فهي في الخامسة عشرة. بصعوبة أقنعت والدها بالموافقة على التحاقها بالمدرسة الصديقة التي حصّنتها وسط بيئتها. تقول: «ذات يوم استدعتني أمي وطلبت إلي أن أرافقها الى الدكتورة. سألتها لماذا؟ فأجابت ليتم ختاني. رفضت وبكيت وناقشتها وأقنعتها أن الدين الاسلامي لا يفرض على الاناث الختان والني محمد (صلى الله عليه وسلم) لم يختن حفيداته. ردت علي بأن التقاليد تفرض ذلك. لم استسلم وبقيت على موقفي حتى صرفت أمي النظر عن المسألة». سناء كشفت لأمها ان ساعي البريد حمل الى المنزل محضر قضية طلاق رفعتها زوجة شقيقها عليه. سألتها الام: «كيف علمت بالامر؟» فأجابت: «قرأت المحضر». لم تصدق الوالدة أن ابنتها تفهم في هذه الامور بفضل التحاقها بالمدرسة الصديقة. بدأت تقدرها أكثر وتقدر أهمية تعليمها. ووقفت في صفها عندما جاءها عريس ورفضته. لأن «الأبلة» في المدرسة شرحت للفتيات أخطار الزواج المبكر.

وتقول المدرّسة المسؤولة عن الفصل رباب عشري: «في الفصل 18 تلميذة وستة تلاميذ. كلهم جاؤوا منذ اربعة أعوام وكلهم نجحوا في الامتحانات الرسمية. وأمامهم سبع سنوات للوصول الى الجامعة. هم يحلمون بها. كل من البنات والصبيان كتب أمنية وعلقها على الحائط. وكلهم يسعون الى تحقيق أمانيهم. يدرسون في الشتاء المنهاج المدرسي العادي وانما بأسلوب التسريع. وفي الصيف يلتحقون بفصل المراجعة وتعويض النقص وتنمية المهارات. المعلومة تمر عبر النشاطات داخل الفصل. قد تقدم التلميذات مسرحية او تمثيلية تؤدي وظيفة تعليمية في الرياضيات او العلوم او اللغة. قد تقدم المادة العلمية ضمن قصة او مناقشة او عرض للدمى».

لكن العقبات موجودة. فالتلميذات اللواتي لم يعرفن المدرسة يصعب عليهن التأقلم والانضباط، الامر الذي يتطلب أحيانا جهودا مكثفة تجنبا للوصول الى اليأس. بعضهن تكونت لديه أفكار مسبقة عن الحياة يصعب تحديها. دعاء ابنة التاسعة لا زميلات لديها. تخاف الاختلاط واللعب. تحفظ ما يقوله شيخ القرية لدى زيارته منزلهم أكثر مما تحفظ أي درس في الصف. ترفض المشاركة في التمثيليات او الغناء مع بقية البنات لأنها سمعت أن الغناء والتمثيل حرام. استوجب اقناعها بالمشاركة اللجوء الى شيخ القرية ليفسر لها ان الدين الاسلامي يوصي بالعلم ولو في الصين. والمدرسة الصديقة جاءت الى القرية ووفرت عليها مشقة الذهاب الى مدرسة بعيدة. وتقول المدرّسة سماح عبد الناصر: «أكبر مشكلة تصادفنا مع الفتيات هي عدم الانتباه. نحاول جذبهن الى الدرس. ونكرر المحاولة. نقدم لغير الراغبات هدايا تشجيعية ولا نيأس بسهولة. نستعين بمتخصصات في التربية وعلم النفس عندما تدعو الحاجة».

الحاجات التعليمية في مصر كثيرة. وأرقام الأمية في صفوف البنات مخيفة. لكن أهمية مبادرة المدرسة الصديقة انها نابعة من المجتمع المحلي. هكذا ارادتها منظمة اليونيسيف. وهكذا تم التخطيط لها لتصبح عملا دؤوبا على الارض يكبر يوما بعد يوم وعاما بعد عام. ولعل تحويل الافكار والدراسات الى واقع ملموس ومستمر هو الوسيلة الأفعل لمكافحة أمية حوالي 650 ألف فتاة مصرية تتراوح اعمارهن من ستة اعوام الى 11 عاما، غير ملتحقات بالمدارس.

1