«الزهق».. تعلو وتيرته في الصيف وله فلسفة عند البعض

يستبعد بعض الكتاب أن يكون للبرد أو الحر تأثير جوهري على عملية الإبداع

كعادتهم ومقدرتهم على السخرية والتنكيت ترجم المصريون حالة الزهق من الحر في شكل رموز شعبية مرحة («الشرق الأوسط»)
TT

يبدو الصيف وكأنه موسم الزهق بامتياز. فالعبارة الأثيرة «أنا زهقان» تعلو وتيرتها، وتتسع، ملخصة جماع الضغوط التي يواجهها الكائن البشري، وقد تمتد أيضا لتشمل أقرانه من الحيوانات.. فأينما حللت تواجهك هذه العبارة، وتتلون بإيقاعات وتشكيلات مختلفة: في البيت، في العمل، في الشارع، في المقهى، في النادي، في الباص، في السوبر ماركت.. الكل زهقان، أو بمعنى آخر الكل يغني على زهقه الخاص.

للزهق فلسفات ومذاهب، فهناك من ملَّ الحياة وزهق منها، وهناك من يحاول ـ دون جدوى ـ الإمساك بخيوطها وعيشها على الحلوة والمرة، وهناك من أدمن محبة الزهق واللعب معه، واتخذه شعارا لراحة العقل والبال من عبث التفكير والبحث عن حلول لمشكلات تستعصي على الحل.. لكن أطرف فلسفات الزهق تظل هذه الصرخة: «يا أخي أنا زهقان وبس، لا تسألني عن السبب». وعبثا تحاول التخفيف عنه ملتمسا الأعذار من هنا وهناك، فالجو حر، و«العرق حتى الرُّكب». شاكر إبراهيم أستاذ علم النفس يفسر حالة الزهق بأنها رد طبيعي على حزمة الضغوط التي يعيشها الإنسان في هذه الحياة، مشيرا إلى أن هذه الحالة تتكثف بشكل ينذر بالخطر حين يهبط سقف الضغوط فجأة، ويشل ـ بشكل لا إرادي ـ القدرة على التفكير، والبحث عن مخرج، أو حلول مناسبة. فالزهق هنا ـ على حد قوله ـ قد ينجم عنه سلوكيات خشنة تتسم بالعنف أحيانا.

ويصف شاكر الزهق بأنه أشبه بالوسادة الخالية، الكل يريد أن يريح دماغه عليها، أو يتوهم ذلك. ومع ذلك يستبعد أن يتحول الزهق إلى مرض عضوي، مشيرا إلى أنه حالة طبيعية، لها أوجهها وأقنعتها الإنسانية العديدة، تتأثر بالمناخ العام للمجتمع، وأكثرها قسوة، حين يسود الزهق مواقف مجموعة من البشر، فإما أن يتمردوا عليه، أو يستسلموا لتداعياته، ليصبحوا بعد ذلك، أشبه بتنابلة السلطان، الذين أدمنوا محبة الكسل، ووجدوا في الزهق ضالتهم إلى ذلك.

ويؤكد أستاذ علم النفس أن الطبيعة بتحولاتها المباغتة، ما بين الفصول الأربعة تلعب دورا مهما في تصاعد أو تخفيف الإحساس بالزهق، فالمنظر الطبيعي الجميل، والطقس المعتدل الهادئ، من شأنه أن يريح العين والنفس والبدن. ويشير شاكر إلى أن الإنسان في جوهره «كائن براني»، يعشق الحياة من حوله في الخارج، يريد أن ينظر ويتأمل، ويمعن النظر، وأيضا يريد أن يستمتع بالحياة بشكل طبيعي، في النادي والمقهى، في الحديقة، وعلى الشاطئ، وفي شرفة المنزل، لذلك ينفر من الطقس الحار، ويزداد ضيقا إذا كان الطقس قائظا شديد الحرارة، ثم إن الإنسان ـ خاصة الشباب ـ ملول بطبعه، يبحث عن التغيير والجديد دوما، ولا يمكن أن يسجن نفسه داخل مكان مكيف مهما كانت المغريات فيه، فالحياة عنده تبدأ في الخارج، وهي أكثر حيوية في الهواء الطلق، كما أن الداخل نفسه انعكاس لما يحدث في الخارج.

وفي غبار هذا الزهق تقول نهلة علي، وهي كاتبة شابة: «نعم أنا أكره الصيف، لا أطيق الحرارة، وأكره أن تنكشف الأشياء وتتعرى بشكل مفتعل ومبالغ فيه».

لكن، على الرغم من هذا، فإن نهلة ترى الزهق قرين الفراغ، وعلى حد قولها: «أحس بأنه دعوة مستترة لإشهار الإفلاس، من شهوة الحياة والأمل». ومع هذا تعترف نهلة بأنها تمر بلحظات زهق كثيرة، وتستدرك: «لكني لا أستسلم لتداعياتها، فكثيرا ما أستثمرها، وأحولها ـ مهما كان الطقس غير ملائم ـ إلى شرارة أو طاقة للإبداع، وإذا لم أستطع ذلك، أهرب إلى أماكن، أو أصدقاء، أو أشياء محببة إلى نفسي». وإذا كانت نهلة لا تصادق الزهق ولا تركن لمبرراته، فهي تشير، في الوقت نفسه، إلا أنه أمر طبيعي، خاصة مع إيقاع الحياة الذي يزداد تعقيدا يوما بعد آخر.

وحول نصيحتها للتخلص من الشعور بالزهق تقول نهلة: «نحن أحيانا، نقوم بصناعة الزهق نفسه، ونصدره بشكل لا إرادي للآخرين، بل نستغرق فيه إلى حد اليأس من أية فسحة للأمل، لذلك أتصور أن نشغل أنفسنا بصناعة الأمل، ونتصور أشكالا أخرى للحياة أكثر دفئا وحيوية، هذا التصور حتى لو ظل محض خيال، فهو سيشعرنا بالراحة، لأننا وسط كل الزهق نمتلك القدرة على التصور وعلى الخيال».

وكعادتهم ومقدرتهم على السخرية والتنكيت والتبكيت ترجم المصريون حالة الزهق من الحر، في شكل رموز شعبية مرحة، فيقولون كناية على الشطط أو فقدان التوازن «فلان لسعت الشمس مخه»، أو «الشمس فلقت رأسه» أو «الحر سيَّح دماغه». وفي الفلكلور المصري تنادي الحبيبة: «قولوا لعين الشمس ما تحماشي لحسن غزال البر صابح ماشي». هذا النداء الحميم تحول ـ مع تعديل طفيف ـ إلى إحدى الأغاني الشهيرة للمطربة شادية. لكن من أطرف التعليقات التي كان دافعها كراهية الحر، تعليق المعلق الكروي الشهير الراحل «علي زيوَر» الذي جمع فيه الحر والبرد في قبضة واحدة، الطريف أن هذا التعليق أصبح لأزمة أساسية له، فكان يستهل كل مباراة كرة قدم يعلّق عليها صيفا أو شتاء، بعبارة لن تمحى من ذاكرة المصريين «سيداتي آنساتي سادتي.. أحييكم من استاد القاهرة الرياضي، الأمن مستتب والجو قارس الحرارة زمهرير». وبرر مقربون منه إصراره على هذه اللازمة الظريفة بأنه نفسه كان لا يطيق الحر.

وليس غريبا حين تجلس في أحد المقاهي وتسمع بين شخصين حوارا من هذا النوع: «يا عم طنش الدنيا حر.. لأ الراجل هيزعل، إحنا اتفقنا معاه.. طب اتصل به واعتذر، مقدرشي، هيقول علينا إيه.. شوية عيال.. يا سيدي عيال عيال مش مهم». المشهد نفسه، حين تركب سيارة أجرة، ويستقبلك السائق بزفرات من الغضب والقرف، وهو يجفف عرقه بحزمة من مناديل الورق: «إمته الحرارة دي تنكسر الواحد نفوخه ساح، والعربية كل شويه تتعطل». ومن المؤكد أنك ستكون من أصحاب الحظ التعيس حين تكون على سفر، وتتعطل فجأة أجهزة المكيف وأنت مسافر بالقطار، أو الباص.

لكن، مثلما للحر أعداؤه له أيضا أصدقاؤه.. الروائي إدوار الخراط من أشد الناس عشقا للصيف، بينما تتسم علاقته مع الشتاء بشيء من عدم التأقلم والجفوة، يقول الخراط: «لا أعرف لذلك سببا محددا، لكني أكون أكثر نشاطا وحيوية في الصيف عن الشتاء، وكثيرا ما أكتب وأقرأ على الشاطئ. وربما مرد ذلك كله إلى نشأتي الإسكندرانية، وعشقي لمشهد البحر والتمشية على الكورنيش، على الرغم من فشلي الشديد في تعلم السباحة. لكن عموما أنا لا أتوافق مع جو البرد في الشتاء، خاصة البرد القارس، وأكره أن أدثر نفسي بملابس ثقيلة، وأخشى الزكام والإصابة بنزلات البرد التي كثيرا ما تنتشر في جو الشتاء». ويستبعد الخراط أن يكون للبرد أو الحر تأثير جوهري على عملية الإبداع، مشيرا إلى أن لكل مبدع مزاجه الخاص، لكن مع ذلك لحظة الإبداع لا تتوقف على طقس معين في الصيف أو الخريف أو الشتاء، إنها لحظة تفرض نفسها، بشكل مباغت، وعلى المبدع أن يكون مهيئا لذلك. وقريبا من محبة الخراط الصيفية تقول منى لطفي (32) سنة، مهندسة بشركة مقاولات خاصة: «الزهق لا يتوقف على الصيف أو الشتاء أو الخريف، فلكل فصل زهقه الخاص، وأنا مثلا أبدو أكثر تفاؤلا وانفتاحا على الحياة في فصل الخريف، فعلى الرغم من أنه فصل رمادي، تسقط فيه أوراق الشجر، ويصيب البعض بالكآبة، إلا أنني أراه ـ خاصة في مصر ـ من أمتع فصول السنة. أما في الصيف فأنا كثيرا ما أشعر بالزهق والملل، لكن كل هذا يزول مع نسمة صيف تهب فجأة. الصيف فصل تحرُّر، يكفيني ملابس بسيطة وخفيفة، كي أذهب إلى العمل أو النادي أو الشاطئ، وهذه متعة لا تتوافر في بقية الفصول». بنظرة أخرى يعيد محمد رمضان، (40) عاما، اختصاصي نظارات طبية، فحوى كلام مني، قائلا: «حصيرة الصيف واسعة»، هذا المثل الشعبي لا يأتي من فراغ. نعم الحر متعب ومجهد أحيانا إلى حد الشعور بالزهق والاختناق، لكن مع ذلك، زهق الصيف مؤقت وعابر، بل لذيذ أحيانا بالمقارنة مع زهق الشتاء الذي يكلبش في العظم، الأول يتبخر بسرعة بمجرد استرخاء على الشاطئ أو تحت الدش، أو نزهة في العصاري مع بعض الأصدقاء، أما الثاني، فيستغرق وقتا، خاصة مع اشتداد البرد والصقيع.. يا عم خليها على الله، وخد لك حَمَّام»!