دراسة: أفريقيا أصل جميع الكائنات البشرية

أظهرت أن المجموعات الإثنية الأصيلة لها أسلاف ينتمون إلى أكثر من قارة

TT

نحن متشابهون تماما باستثناء تلك الأمور الصغيرة طبعا التي تجعلنا مختلفين. هذه هي استنتاجات ثلاث دراسات نشرت الأسبوع الماضي تتناول الاختلافات بين البشر من خلال زاوية التحولات الجينية التي نحملها جميعا.

وجاءت الكشوف الأخيرة لتؤكد صحة تاريخ البشرية المعروف من خلال دراسات لغوية وأركيولوجية وبيولوجية سابقة. لكن البحث الجديد أضاف عنصرا مدهشا من التفاصيل مع بعض الكشوف الجديدة التي لم تكن متوافرة في السابق.

وتدعم كل الدراسات الثلاث فكرة أن الكائنات البشرية الحالية انطلقت في الأصل من أفريقيا ثم سارت صوب شرق آسيا وبعد ذلك انتشرت شرقا وغربا على كل الكوكب الأرضي. وتؤكد الدراسات ما توصلت إليه دراسة سابقة من أن الأفارقة كمجموعة لديهم تنوع في الجينات أكثر مما موجود لدى البشر في القارات الأخرى. لكن البحث الجديد أظهر أن التنوع الجيني يتضاءل أكثر لدى الأسلاف الذين سافروا من أديس أبابا في أثيوبيا وهي الموقع التقريبي الذي انطلقت الهجرة منه إلى خارج أفريقيا.

كذلك أظهرت الدراسات أن الكثير من المجموعات الاثنية التي تعد أصيلة لها أسلاف ينتمون إلى أكثر من قارة. فعلى سبيل المثال ينتمي بدو شبه الجزيرة العربية لا إلى أسلاف جاءوا من الشرق الأوسط فحسب بل من أسلاف أوروبيين وأناس ينتمون إلى المنطقة التي تحيط بباكستان الحالية. أما شعب ياكوت من شرق سيبيريا فهم يشتركون في دمائهم مع سكان شرق آسيا ومع الأوروبيين والهنود الأميركيين لكنهم يشتركون قليلا مع سكان آسيا الوسطى الذين هم أقرب من الناحية الجغرافية إليهم من تلك الجماعات البشرية.

وقد يسلط البحث الجديد الضوء على الأمراض التي يصاب بها البشر؛ ففي دراسة اتضح أن الأميركيين من أصل أوروبي يحمل عدد كبير منهم على متغيرات جينية مؤذية أكثر من الأميركيين من أصل أفريقي. والرسالة الأكبر هي أن هذه الفروق تكمن في التفاصيل بما يخص الجنس البشري. فهناك ما يقرب من 90% من أنواع الجينات موجودة لدى كل البشر. والأفراد هم في الغالب مختلفون كثيرا عن أولئك الذين يعتبرونهم مثلهم أكثر من أولئك الساكنين في الطرف الآخر من العالم.

وقال ريتشارد مايرز خبير الجينات من كلية الطب في جامعة ستانفورد والذي قاد أحد الفرق التي أعدت الدراسات التي نشرت الأسبوع الماضي في مجلة ساينس: «ما تقوله هذه الدراسة هو أننا قريبون من بعضنا البعض بشكل كبير جدا».

واختبرت الدراسات الثلاث حرفا واحدا من الثلاثة مليارات حرف الموجودة في كل جينوم (الخارطة الجينية) فردي. واتضح أن كل فرد يحمل عشرات الآلاف من هذه التنويعات. وبعضها لا يغير «الكلمات» التي هي الجينات بينما البعض الآخر يغير الكلمة لكن لا معناها، وبعضها يغير المعنى بطريقة تكون مفيدة أو مضرة.

وتساهم كل مجموعة من التغيرات التي تعود للشخص (والمسماة بـ SNP) في تحديد ملامح فردية كل شخص. ويميل الأشخاص المنتمون إلى سلف واحد امتلاك مجموعات متماثلة من SNP المعروفة باسم سْنيب.

وقال مايرز: «ليس هناك جين فردي ولا يوجد مؤشر فردي من الحمض النووي الذي يجعل مجموعة بشرية ما مختلفة عن غيرها. إنه النمط المشابه للشفرة الموجودة على لوحة مع آلاف الخطوط فوقها» التي تسمح للباحثين بتفريق النقاط المتميزة الموجودة بين التجمعات البشرية المختلفة.

ودرس هو وزملاؤه 938 فردا من 51 جماعة سكانية مختلفة كان حمضهم النووي محفوظا في مستودع بفرنسا. ودرست المجموعة التي يقودها روزنبيرغ واندرو سنغلتون من جامعة فرجينيا 485 شخصا من التشكيلة نفسها. وكان لكل شخص مدروس هوية إثنية واضحة وفي معظم الحالات جاء من عائلة كانت قد عاشت في موطن الجماعة لأجيال عدة. وبهذه المادة المتنوعة والوفيرة كان الباحثون قادرين على تخطيط صورة للاثنية أكثر تفصيلا بكثير مما كان معروفا في السابق.

وعلى سبيل المثال فان مجتمعات الصيد الباقية في افريقيا، وهما جماعتان من الأقزام ومن سكان أفريقيا الجنوبية الذين يعرفون بكونهم سكان الغابات المتنقلين، ترتبط على نحو وثيق بأساس جيني آخر مميز عن جميع الأفارقة السود. ويعتبر الهزارا في أفغانستان وباكستان والأوغور في شمال غربي الصين من ذوي الصلات الجينية القريبة، على الرغم من عيشهم في مناطق بعيدة عن بعضها البعض. ومن ناحية أخرى، فان الاثنية المهيمنة في الصين، وهم الهان، هم في الواقع جماعتان مميزتان جينيا، وهما الهان الشماليون والهان الجنوبيون. ويظهر البحث ان البصمات الجينية للجماعات السكانية على كوكب الأرض عميقة وحادة ولا يمكن تغطيتها بسهولة بمرور الزمن.

واكتشف فريقا البحث اللذين استخدما تشكيلة الحمض النووي الفرنسية أن البعد الجغرافي عن شرق افريقيا هو عامل مقرر رئيسي في الاختلافات الجينية بين الجماعات.

وقال روزنبيرغ ان «كل جماعة تحمل فقط طائفة فرعية من التنوع الجيني عن السكان الأسلاف. ولهذا فان هناك ضياعا في التنوع الجيني ارتباطا بالبعد عن أفريقيا». وأحدى النتائج الأكثر اهمية لذلك النموذج هي موضوع الدراسة الثالثة التي نشرت في مجلة «نيتشر» أيضا. فقد قاس كارلوس باستامانتي من جامعة كورنيال وزملاؤه السنيب في 20 أميركيا اوروبيا و15 أميركيا أفريقيا. واكتشفوا ان الشخص المتوسط يحمل ما لا يقل عن ألفي سنيب وهو ما يغير معنى «الكلمة» الجينية. غير أنه لدى الأميركيين الأوروبيين فان نسبة اكبر من تلك التغيرات يحتمل أن تكون غير سليمة صحيا وغير مفضلة.

وأسباب هذا الاكتشاف المثير لحب الاستطلاع غير معروفة بالكامل على الرغم من وجود نظريات. والتفسير الرئيس هو أن اسلاف الأوروبيين (ومعظم الأميركيين البيض) عانوا من معوقات سكانية متكررة سحقت فيها اعدادهم نتيجة للأوبئة والكوارث البيئية وعمليات الابادة الجماعية. وفي كل مرة يحدث فيها هذا الشيء يفقد السكان كثيرا من تنوعهم الجيني لأن كثيرا من الناس يموتون.

وحمل الناجون، شأن اسلافهم، تشكيلة عشوائية معينة من السنيب. وعندما استعاد السكان أوضاعهم الطبيعية نشرت تلك الجينات على نطاق واسع، ذلك أن العدد القليل من الناجين كانوا يمنحون الحياة لمن يخلفونهم. ولكن اذا كان هناك احتمال ان تكون تلك الجينات سيئة فلماذا لم تجر ازالتها عبر الاختيار الطبيعي؟ ذلك هو السر.

وقد يكون أن الخطر الطفيف لتلك السنيبات بعد تجاوز العوائق لم يؤد الى فوارق كبيرة. فقد سمحت ظروف جديدة، ربما الأرض التي لا يوجد فيها منافسون او التكنولوجيا الجديدة للحصول على الغذاء، للناس الذين كانوا يحملونها بالازدهار كما هو حال الناس الذين لم يمتلكوها.

كما أنه من المحتمل ان بعض السنيبات الضارة بالصحة قد «سحبت» الى المستقبل لأنها قريبة فيزيائيا في الكرموسومات الى السنيبات الناشئة التي تزيد من لياقة الشخص البيولوجية.

وبمرور الزمن فان الاختيار الطبيعي سيميل الى التخلص من السنيبات الضارة، كما فعل في الجماعات السكانية الأفريقية، اذا ما تحدثنا في الاطار النسبي. ولكن في حالة الأوروبيين لم يمر وقت كاف.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)