الغدد «جار الدرقية».. أربع خرزات في مقدمة الرقبة

مهمة هرمونها ضبط التوازن في الدم لنسبة الكالسيوم والفسفور

TT

ما أضافه أحد طلاب الطب السويديين في عام 1880 كان من غرائب الاكتشافات الطبية. ذلك أن الدكتور إفار فيكتور ساندستورم تمكن إبان دراسته للطب من اكتشاف وجود أربع كتل صغيرة خلف الغدة الدرقية thyroid gland الموجودة في مقدمة الرقبة. ويُعتبر اكتشافه للغدد جار الدرقية parathyroid glands آخر أكبر الاكتشافات العلمية للأعضاء الرئيسية المستقلة في جسم الإنسان.

وتوجد في الغالب لدى الإنسان أربع غدد صماء صغيرة الحجم تتوزع خلف الغدة الدرقية. ومن السهل على علماء الأنسجة Histology التفريق بين أنسجة الغدة الدرقية، ذات التركيبة المكونة من تجمعات لجراب وأكياس صغيرة جداً من الخلايا، وبين أنسجة الغدد جار الدرقية، والمكونة من كتلة كثيفة للخلايا.

ولكن الصعوبة هي لدى الجراحين حينما يُحاولون التفريق بين الغدد جار الدرقية وبين أنسجة الغدة الدرقية أو الأنسجة الشحمية ، كما في عمليات إما استئصال الغدة الدرقية دون الغدد جار الدرقية أو عمليات استئصال الغدد جار الدرقية دون الغدة الدرقية.

ومن ناحية نوعية الخلايا المكونة لأنسجة كل واحدة من الغدد جار الدرقية، فإن علماء الأنسجة يلحظون وجود نوعين من الخلايا. ويُدعى أحدهما خلايا “شيف” chief cells ، وهي خلايا غامقة اللون وصغيرة الحجم وتُفرز هرمون يُدعى “هرمون الغدة جار الدرقية” PTH. ولكن الغموض لا يزال يلف حتى اليوم وظيفة النوع الثاني من الخلايا، الكبيرة الحجم والقليلة العدد نسبياً، والتي تُدعى خلايا “أوكسيفيل” oxyphil cells.

* وظيفة لضبط الكالسيوم

* وما هو معلوم حتى اليوم من وظيفة الغدد جار الدرقية، هو تنظيمها حفظ معدلات نسبة الكالسيوم في الدم ضمن نطاق ضيق ودقيق ومهم جداً، وذلك لضبط عمل الأنظمة في الأجهزة العصبية والعضلية. وتحتوي الغدد جار الدرقية على أجهزة رادار لرصد أي انخفاض في مستوى الكالسيوم في الدم. وهذه الرادارات تُدعى “مستقبلات الإحساس بالكالسيوم” calcium-sensing receptors. تنشط وعند حصول تدني نسبة كالسيوم الدم، كي تحث الغدد جار الدرقية على إفراز هرمونها المميز في إعادة التوازن لنسبة الكالسيوم في الدم. وهرمون الغدة جار الدرقية هو عبارة عن بروتين صغير الحجم، مهمته تنفيذ ضبط التوازن في الدم لنسبة كل من الكالسيوم، ورفيقه الفسفور. وهو ما يُعطيه صلاحيات واسعة للتدخل في فسيولوجيا بناء وتكوين كتلة الأملاح في العظم.

وللتوضيح، يعمل “هرمون الغدة جار الدرقية” على رفع كمية الكالسيوم السابح في مجرى الدم، وذلك من خلال جهوده في كل من: · تنشيط عمل نوعية خلايا أوستيوكلاست osteoclasts العظمية. وخلايا أوستيوكلاست تعمل حين نشاطها كمعاول لهدم وتفتيت الأملاح المترسبة والمكونة لبناء العظم. ومعلوم أن الكتلة الصلبة للعظم مكونة من تراكمات للأملاح العظمية، المتشكلة بالأصل من مركبات فوسفات الكالسيوم.

· تنشيط عمل فيتامين دي، كي يزداد امتصاص الأمعاء للكالسيوم الموجود في الطعام، وكي يزداد في الكلى أيضاً نشاط عملية إعادة امتصاص ما تسرب من كالسيوم مع البول.

ولذا فإن “الغدة جار الدرقية” دقيقة في تنبهها ومراقبتها لأي انخفاض في مستوى كالسيوم الدم، وعملها على عدة جبهات في إعادة نسبته إلى المعدلات الطبيعية. وذلك لحماية الجهاز العصبي والعضلات من تداعيات تدني نسبة كالسيوم الدم. ومن المهم التذكير بأن ثمة فرق كبير جداً بين تدني نسبة كالسيوم الدم وبين تدني كمية الكالسيوم في الجسم. وقد تتدنى كمية الكالسيوم في الجسم إلى حد التسبب بالضعف في العظم، لكن تظل نسبة كالسيوم الدم ضمن معدلاتها الطبيعية. ولكن المشاكل تبدأ حينما يزداد أو ينخفض مستوى نشاط وإفرازات “الغدد جار الدرقية” لهرمونها، وتداعيات ذلك، الارتفاع أو الانخفاض، على العظم والجهاز العصبي والعضلات والكلى وغيرها من أجزاء الجسم.

* الغدة جار الدرقية.. بين فرط النشاط والكسل

* حينما يزداد إفراز هرمون الغدة جار الدرقية يزداد العمل على رفع نسبة الكالسيوم في الدم وعلى خفض نسبة الفسفور في الدم. ولذا فإن وجود ارتفاع نسبة هرمون الغدة جار الدرقية، هو دليل على وجود حالة مرضية تُدعى “فرط نشاط الغدد جار الدرقية” Hyperparathyroidism. سواءً في أحد الغدد الأربع، أو في كلها.

والحالة إما أن تكون “أولية”، أي بدأ زيادة إفراز “هرمون الغدة جار الدرقية” من انفلات نشاط الغدد تلك، أو أحدها، دون أن يكون ثمة داع لذلك، اللهم إلا وجود ورم حميد، غالباً، في أحد “الغدد جار الدرقية”. أو أن تكون الحالة “ثانوية”، وناتجة عن وجود انخفاض بالأصل في نسبة كالسيوم الدم، الأمر الذي يُجبر “الغدد جار الدرقية” على رفع إنتاجها من هرمونها، مثل ما يحصل في الغالب لدى مرضى الفشل الكلوي الذين يتدنى لديهم وجود فيتامين دي، وبالتالي ينخفض الكالسيوم ويرتفع الفسفور.

ولذا فإن الفارق في التحليل بين الحالة “الأولية” والحالة “الثانوية” من “فرط نشاط الغدة جار الدرقية” هو ارتفاع الكالسيوم في الحالة “الأولية” وانخفاض الكالسيوم في الحالة “الثانوية”.

أما حينما يقل إفراز “هرمون الغدة جار الدرقية” فإن تدني نسبة الكالسيوم في الدم هو الأثر الأكثر ضرراً على الجسم. ولذا تبدأ أعراض متنوعة، قد تظهر كلها أو بعضها، مثل الوخز في الشفاه والأصابع اليدين والقدمين، مع تقلصات عضلية، وألم في الوجه أو الساق أو القدم، وألم في البطن، وجفاف الشعر، وتقصف الأظافر، وجفاف الجلد وتكون الماء الأبيض في العين، وتقلصات عضلية لا إرادية، وربما حتى نوبات من الصرع. إلا أن الملفت للنظر في كسل الغدد هذا أنه لا يُؤثر على العظم.