حبوب وهمية.. شافية

حبة خاملة مماثلة لحبة الدواء لها مؤثرات عظيمة تقود نحو الشفاء

TT

أطباء العصر الحديث يقدمون خبرتهم استنادا الى الطب المبني على البراهين. وحيثما يتاح لهم الأمر، فانهم يوظفون أحدث الدراسات العلمية للتخطيط لاجراء الفحوصات وادارة سبل العلاج. ومع ذلك، فان الطب هو فن اضافة الى كونه علما. والأمانة، والثقة، والإيمان، هي نواح مهمة من العلاقة العلاجية، وبمقدورها ان تكون مؤثرات عظيمة في الشفاء.

* يدرك العلماء أهمية التوقعات والمعتقدات. وهم يعرفون ان بعض المرضى يشعرون انفسهم افضل حالا بعد تناولهم الدواء، حتى وان كان الدواء غير فعال البتة. ويسمي الاطباء هذه الحالة “ظاهرة الحبة الوهمية” “placebo effect”. وهي ظاهرة معروفة لأن المصطلح مشتق من الكلمة اللاتينية placere التي تعني “جلب السرور” ومقابلها بالانجليزية “to please”.

وعندما يتوجه الباحثون الى البحث عن انواع الادوية الآمنة والفعالة، فانهم يختبرونها مقابل الحبوب الوهمية، وهي حبوب خاملة غير نشطة تشابه تماما في الشكل والطعم والرائحة نفس حبة الدواء المدروس. وفي افضل الاختبارات، يصنف المرضى بشكل عشوائي اما لتناول الحبوب الوهمية او حبوب الدواء المدروس، ولا يعرف أي من المشاركين من المتطوعين ولا اطباؤهم، مَنْ مِنَ المشاركين يتناول أي نوع من الحبتين، الا بعد انتها الاختبارات. وفي لغة الطب فان هذه الدراسات تسمى “تجارب اكلينيكية (سريرية) متحكم بها بالحبوب الوهمية، عمياء عشوائية مزدوجة” placebo-controlled, double-blind randomized clinical trials.

ورغم اهمية العلم، فان الاخلاقيات مهمة ايضا. ولذلك فينبغي التخطيط بعناية فائقة للتجارب السريرية العشوائية، مع وضع السلامة في اعلى سلم الأولويات. وقبل ان تنطلق التجارب يجب ترخيصها من قبل الجهة التي مولت البحث ومن قبل مجالس اشراف ومراجعة مؤسساتية، تؤدي وظائفها بوصفها “قياصرة الأخلاقيات” توجد في المراكز الطبية المشاركة في الاختبارات. واضافة الى ذلك، فان الدراسات تراقب من قبل مسؤولي السلامة طيلة فترة اجرائها. وفوق هذا وذاك، فان المرضى الذين تطوعوا حقيقة، ينبغي ان يكونوا على معرفة شاملة بالمخاطر والفوائد الناتجة عن الدراسة، وان تتاح لهم حرية الامتناع في المشاركة فيها او الانسحاب منها من دون ان يؤثر ذلك على رعايتهم الطبية.

التجارب السريرية العشوائية معقدة، بطيئة، وغالية الكلفة- الا انها ضرورية. وقد اظهرت دراستان منها قوة الحبوب الوهمية.

* تأثير الحبوب الوهمية

* حالة عجز القلب يظهر عندما تضعف عضلة القلب، ولا يستطيع القلب ان يضخ الدم الى انسجة الجسم، بكفاءته المعهودة. والأعراض عادة تشمل الاجهاد، الضعف، تقطع النفس، وتراكم السوائل في الرجل والبطن، والرئة.

وعجز القلب حالة شائعة وخطرة في آن واحد. ومن حسن الحظ فان التجارب السريرية العشوائية قد علمت الاطباء توظيف مجموعة من الادوية يصل عددها الى خمسة، لعلاج عجز القلب، التي قادت الى تحسن دراماتيكي مع انحسار الاعراض اضافة الى زيادة ملموسة في تحسن فرص النجاة.

وقد اختبرت تجارب “تشارم”CHARM دواء “كانديسارتان” candesartan (أتاكاند) Atacand، مقابل حبة وهمية على 7599 مريضا بعجز القلب. وهذا الدواء هو من نوع حاصرات مستقبل الأنجيوتنسين angiotensin-receptor blocker الذي يستخدم على نطاق واسع لعلاج ضغط الدم العالي، كان فعالا، اذ قلل من عدد الوفيات الكلي بنسبة 10 في المائة. وكانت هذه النتائج متوقعة، ما دامت أدوية مماثلة قد اظهرت فاعليتها في علاج عجز القلب. واضافة الى ذلك، فقد وجد الباحثون ان المرضى الذين تناولوا دواء “كانديسارتان” كما طلب منهم، والذين اخذوا 80 في المائة من الجرعة الموصوفة، قلت لديهم نسبة الوفيات بـ 34 في المائة مقارنة بالمرضى الذين لم يتناولوا الدواء. وكانت هذه النتيجة متوقعة ايضا.

وفي تقرير جديد، ذهب العلماء خطوة ابعد عندما درسوا مجموعة التي تناولت الحبوب الوهمية بشكل مفصل. وفي هذه المرة ادهشتهم النتائج: اذ ظهر ان المرضى الذين تناولوا الحبوب الوهمية كما كان مطلوبا منهم، كانت نتائجهم افضل بكثير من الذين لم يتناولوا اكثر من 20 في المائة من جرعات دوائهم. وفي الواقع فان الاشخاص الذين تناولوا الحبوب الوهمية بإيمان، قلت لديهم نسبة الوفيات بـ 36 في المائة مقارنة بالذين لم يتناولوا اكثر من 20 في المائة من جرعاتهم- وهذا تحسن ينفس مستوى التحسن الذي طرأ على متناولي أدويتهم.

وكانت الحبوب الوهمية المستخدمة في دراسة CHARM مزيفة فعلا، خاملة تماما وليس لها أي نشاط بيولوجي. ومع هذا فقد ارتبط تناولها المتواصل بفائدة توازي فائدة دواء “كانديسارتان” بانتظام. وهذه هي حبوب وهمية عظيمة التأثير بالفعل! ماهي تفسيرات هذ النتائج المدهشة؟ لقد كان باحثو CHARM انفسهم غير واثقين من استنتاجاتهم، الا هناك عدة احتمالات لها.

التفسير الاول، ان المرضى الذين لم يتناولوا حبوبهم بانتظام، ربما كانوا اكثر مرضا من الآخرين الملتزمين بدوائهم، أي لعلهم كانوا مرضى الى درجة انهم لم يستطيعوا تنفيذ التعليمات. الا ان الباحثين استبعدوا هذا التفسير: فالمرضى في كلا المجموعتين كانت لديهم نفس درجة المرض ونفس حدته.

التفسير الثاني يبدو اكثر مقبولا. فعلاج عجز القلب معقد جدل. وهو يشمل خمسة ادوية، ونظاما غذائيا قليل الملح صارما، والتمارين الرياضية الملائمة، والمراقبة المتواصلة. والمرضى الذين لم يتناولوا حبوبهم-سواء كانت حبوبا حقيقية او وهمية- ربما التفوا حول هذه الاجراءات ايضا، أي تفادوها، الأمر الذي ادى الى هذه النتائج المؤسفة.

التفسير الاخير يصعب قياسه، الا انه ليس أقل غرابة. إنه تأثير الحبوب الوهمية نفسها. وقوة العقل لا تقل عن قوة أي عضو آخر في الجسم. والاشخاص الذين تناولوا الحبوب الوهمية بإيمان وهم يعتقدون انها ستساعدهم، قد حصلوا بالفعل على مساعدة حقيقية. وفي الحقيقة فان العلاج المعاصر لعجز القلب يشمل ادوية مضادة لتأثير هرمون التوتر “الادرينالين” سوية مع الاجراءات الاخرى اللازمة لخفض ضغط الدم وإبطاء وتيرة القلب. ولن يكون من النافل، الافتراض بأن الثقة والايمان في الحبوب يؤدي الى تأثيرات مشابهة، حتى وان كانت الحبوب نفسها خاملة.

الحبوب الوهمية يمكنها ان تكون ذخرا عظيما- الا ان هناك في بعض الاحيان جانبا مظلما لظاهرة الحبوب الوهمية.

* “سموم” الحبة الوهمية

* ان الايمان بالادوية يمكنه ان يعزز من فاعليتها- الا ان الخوف من الادوية يمكنه مضاعفة سمومها. وفي عالم اليوم، فان كل شخص يعرف ان الادوية لها اعراض جانبية. والحبوب الوهمية بمقدورها اظهار أعراض جانبية ايضا. وفي كل تجارب سريرية محكمة بالحبوب الوهمية، اشار متطوعون من المرضى المشاركين الى حدوث اعراض مرضية ناجمة عن الحبوب الوهمية، كان قسما منها متعبا الى درجة انهم اوقفوا مشاركتهم في التجارب. ويطلق الاطباء تسمية على هذه الحالة وهي “ظاهرة “نوسيبو” nocebo effect (من كلمة جلب الضرر اللاتينية).

وتظهر تجربة حديثة هذه الحالة، وقد شارك فيها 225 متطوعا مصابا باعراض متوسطة الى حادة من تضخم البروستاتا الحميد. وتناول الرجال بشكل عشوائي مستحضر “ساو بالميتو” palmetto saw او حبوبا وهمية لمدة سنة. وبنهاية التجربة لم تظهر فروق بين اعراض الرجال او في معدل تدفق البول، واخلاء المثانة، وحجم البروستاتا، وفي مستويات عامل PSA prostate-specific antigen. وجاءت النتائج متناقضة مع نتائج دراسات اصغر سابقة، اشارت الى الفوائد المجتناة من “ساو بالميتو”. ولا يخضع “ساو بالميتو” الى أي انظمة تحددها وكالة الغذاء والدواء الاميركية، مثله في ذلك مثل كل المكملات الغذائية الاخرى، ولذا فان خصائص حبوبه قد تكون متفاوتة.

وينبغي اجراء ابحاث اخرى للتعرف على ما اذا كان بمقدور “ساو بالميتو” تقليل اعراض تضخم البروستاتا الحميد، وأي من مستحضراته هي الافضل، واي الرجال مرشحون لتناول هذا العشب. ومع ذلك فان الدراسة الحالية اثبتت ان “ساو بالميتو” آمن، اذ لم يتعرض سوى 8 من 112 رجلا تناولوه الى اعراض مضادة خطيرة خلال فترة الدراسة السنوية. وهذا يقارن لصالحه مقابل الحبوب الوهمية بعد ان تعرض 18 من 113 رجلا تناول الحبوب الخاملة الى اعراض مضادة خطيرة. وكانت الاعراض الجانبية الخفيفة متساوية لدى المجموعتين.

* العقل والفكر

* ان “ظاهرة الحبة الوهمية” معروفة من السابق، الا ان ظاهرة الحبة الوهمية “السلبية” nocebo جديدة. والظاهرتان تعكسان قوة الايمان. وفي زمن ما في الماضي، حاول الاطباء تعزيز تلك القوة باعطاء حبوب او حقن خاملة للاشخاص المعانين من اعراض مؤلمة لم يتمكنوا من تشخيصها ومعالجتها بالوسائل التقليدية. ورغم انه لا يوصى الآن باستخدام هذه الطريقة فان دراسة عام 2008 وجدت ان 45 في المائة من اطباء المستشفيات يصفون الحبوب الوهمية.

ان الطب علم الا ان الشفاء فن. •خدمة هارفارد الطبية – الحقوق: بريزيدانت آند فيلوز – كلية هارفارد.