«ضحكة.. بتردّ الروح»

«نشوة الادمان»لدى الأم عند رؤية ابتسامة طفلها

TT

لأن ثمة الكثير تحت أقدام الأمهات، فإن على بعض الرجال أن لا يُسرفوا في التباهي بالذكاء الخارق والخبرة التي "لا يُشق لها غبار" في فهم وإدراك جوانب شؤون الأمومة. وعلى هؤلاء القوم أن "يُفرملوا" من الاندفاع في الإدعاء بالمعرفة، بل وعلى الأزواج منهم بالذات أن "يمشوا الهُوَيناَ كما يمشي الوَجي الوَحِلُ" عند حشر أنوفهم في عالم الأمومة واستخدامهم مفاهيم مُكتسبة من "الرجولة" لـ"تفهيم" الزوجة "الأنثى" كيفية التعامل مع ابنها أو بنتها، والتفاعل مع أي منهما خلال مراحل العمر المختلفة.

والحقيقة أن ثمة الكثير جداً مما هو غير مفهوم بعد، وغير معروف للباحثين الطبيين والنفسيين، حول جوانب شتى من تعقيدات تلك العلاقة الحيوية الغريزية فيما بين الأم وفلذة كبدها، سواءً كان جنيناً في بطنها، أو رضيعاً في حَجْرها، أو طفلاً يلعب في بيتها، أو مراهقاً يبدأ الانطلاق في الحياة تحت مراقبتها، أو بالغاً قد شبّ عن طوقها.

والأم حينما تبذل الجهد لتستجلب ابتسامة من وليدها بالمناغاة، أو لمّا تفتعل حركات وأصوات بوجهها ويديها كي تُضحك سنَّ طفلها، والذي في خلاله يتكرر ضمّ الأم لطفلها وهي تقول له " تسلملي ضحكتك اللي بتردلّي روحي"، فإنها في الحقيقة تفعل كل ذلك، وبصفة متكررة خلال اليوم، كي تحصل على قسط من السعادة والراحة النفسية والذهنية.

هكذا خُلقت الأمهات، وهكذا تم تهيئتهن كي يعتنين بأطفالهن ويرعوا شئونهم ويصبروا على التعب والإرهاق الذي تتطلبه عملية "تنشئة الطفل".

ولأحد من الرجال أن يسأل: كيف تُطيق الأم كل ذلك الصبر على سهر العناية بالطفل؟ ولما تتعلق الأم بطفلها إلى الحد الذي لا يقوى الرجل على مجاراتها فيه؟

مشكلة الرجل أنه رجل، وهو بهذا لن يفهم بدقة ما الذي يجري في عقل وقلب وجسم المرأة حينما تتعامل مع الطفل. ويغدو الأمر أشد تعقيداً حينما يتعلق الشأن بالطفل الذي حملته الأم في بطنها "وهناً على وهن" طوال تسعة أشهر، والذي تكبدت فيه الآلام كي تلفظه إلى الدنيا وهي تتمنى أن يكون فيها روحاً محبوبة وإنساناً سوياً.

وكمثال على مشكلة "الفهم الثقيل" لدى الرجل حول الأمومة، نلحظ تدني تصور مدى احتياج الأم إلى التواصل مع الطفل وإسعاده واستخراج الابتسامات من ثغره. وابتسامة الطفل لأمه مسألة علمية معقدة. ولئن كانت دراسات طبية سابقة قد لاحظت أن الطفل يبتسم وهو في داخل رحم أمه، وحاولت تفسير معنى وأسباب ذلك، فإن الأمر لا يزال محيراً في تبرير الحاجة إلى ابتساماته المتكررة بعد ولادته، ودواعي ذلك للطفل وللأم.

ودعونا نراجع قليلاً تلك الدراسة للباحثين من كلية بيلور للطب بهيوستن في تكساس بالولايات المتحدة، والمنشورة ضمن عدد يوليو من مجلة طب الأطفال، الصادرة عن الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال. والتي قالت في نتائجها كلاماً لم يُضف المزيد إلى ما تعرفه وتشعر به الأمهات خلال المشهد المفعم بالعفوية لرؤية الأم صدور ابتسامة من ثغر طفلها.

وقال الباحثون إن الشعور العارم بالسعادة لدى الأم عند ابتسام طفلها لها، له أسباب بيولوجية حقيقية. وهو ما لا يحصل لديها عند مجرد رؤيتها ابتسامة طفل أخر، أي غير الذي أنجبته. والأمر لدى الباحثين أبعد من مجرد إعطاء الطفل لتلك الجرعة من السعادة عند ابتسامه لأمه، بل هي في نظرهم الطريقة التي يستجلب بها الطفل حنان الأم عليه ويضمن استمرارية ذلك. وهو ما عبّروا عنه بالقول: الطريقة لبناء نظام يُقوّي العلاقة فيما بين الطفل والأم. وفي المراحل المبكرة من عمره، لا يقوى الطفل الضعيف إلا على البكاء أو الابتسام، كما هو معلوم. وهما وسيلتاه للتواصل مع الغير لتفهيمهم ما يُريد قوله لهم وما يُريد أن يُحقق به طلباته. وأهم طلبات الطفل في تلك المرحلة أن لا يُترك بلا عناية واهتمام، لتغذيته وتنظيفه وحمايته وغير من ذلك من الاحتياجات الأساسية للعيش في الحياة.

وما قام الباحثون به هو دراسة تأثيرات رؤية الأم لابتسامة طفلها، ومقارنة ذلك برؤية ابتسامة طفل غريب أو رؤية طفلها وهو لا يبتسم بالأصل. واستخدم الباحثون تقنية معقدة ودقيقة في رصد التفاعلات الوظيفية لمناطق الدماغ. وذلك بإجراء التصوير الوظيفي للدماغ بالرنين المغنطيسي functional MRI لأمهات يلدن لأول مرة. ومتوسط أعمار الأمهات كان تسع وعشرين سنة، وغالبيتهن حصلن على الشهادة الجامعية. وأُخذت صور الفيديو لأطفالهن، وأطفال غيرهن، عند ثلاث حالات، وهي الابتسام والبكاء وفي الحالات العادية، حينما كانوا في عمر ستة أشهر. ثم عُرضت تلك الصور على الأمهات خلال إجراء التصوير الوظيفي للدماغ بالرنين المغنطيسي.

وتبين للباحثين أن رؤية الأم لطفلها بالذات حينما يكون مبتسماً، يُثير النشاط في مناطق أنظمة التفاعل مع المردود الإيجابي للسعادة والنشوة، أي دون رؤية طفلها عند البكاء أو في الحالات العادية، ودون رؤية طفل غيرها.

وقال الباحثون إن الدراسة خطوة للأمام في فهم كيمياء تفاعلات العواطف والمشاعر، لأن درجة النشاط في مناطق السعادة والنشوة كان أعلى كلما كانت ابتسامات طفل المرأة وضحكاته أقوى وأطول. وأضافوا بأن المناطق الدماغية تلك هي نفس المناطق التي تتفاعل بالنشوة لدى مُدمني المخدرات. أي المناطق التي تنشط استجابة لتأثير عامل قوي في بعث الشعور العارم بالسعادة. وهو ما جعل الباحثين يقولون إن رؤية ابتسامة الطفل هو أشبه بالمادة الطبيعية لرفع مستوى المزاج.

* استشاري باطنية وقلب مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض [email protected]