الشحوم المُغلّفة للقلب.. تزيد من مخاطر الجلطة القلبية

ضرر ما «ران» على سطح الفؤاد

TT

لم يكن لدى الأطباء القدماء، في الحضارات الغابرة، أي ميكروسكوبات، أو أجهزة تحاليل الدم للكوليسترول والسكر، أو أجهزة تصوير شرايين القلب بالقسطرة. ومع ذلك كانوا يقولون إن تراكم الشحوم على عضو القلب، دليل على وجود مرض فيه. وكانوا يرون أن كتلة الشحم المُغلفة للقلب تتناسب طردياً مع احتمال إصابته بالأمراض. وذهب الأطباء الأقدمون إلى أبعد من ذلك، حيث كانوا ينصحون بعدم تناول الشحوم المُغلفة لقلوب الحيوانات، من ضأن وبقر وغيره، لأنها شحوم فاسدة وضارة، بخلاف رأيهم حول تناول الشحوم الموجودة على ذنب تلك الحيوانات مثلاً.

هذا الاعتقاد لم يكن مقبولاً جداً في أوساط غالبية أطباء القلب إلى وقت قريب جداً. والسبب هو اعتقادهم أن أمراض القلب ناتجة عن تراكم الكوليسترول داخل شرايين القلب، وليس خارجها. وهذا الترسب لكتل الكوليسترول هو ما يسد مجرى الشريان أو يُعيق تدفق الدم من خلاله، بينما كتلة الشحوم المُغلفة للقلب Pericardial Fat لا تضغط على مجرى الشريان، وبالتالي لا تُعيق أو تسد جريان الدم من خلالها.

إلا أن قلة من أطباء القلب كانت كثيراً ما تحتار في دلالة ومعنى تراكم الشحوم على قلب الإنسان. أي: هل هناك ارتفاع في المخاطر على صحة القلب حينما تغلّفه طبقة كبيرة من الشحوم؟ وهل تغليفه بطبقة خفيفة منها دلالة على تدني احتمالات الإصابة بأمراض الشرايين التاجية والجلطات القلبية.

وما أعلنه الباحثون من جامعة «ويك فورست» بالولايات المتحدة ضمن عدد أغسطس الحالي من مجلة السمنة، مفاده أن كثرة تراكم الشحوم على القلب ترفع من احتمالات الإصابة بالجلطات القلبية. وأن هذا التراكم للشحوم على عضو القلب أسوأ من تراكم الشحوم في البطن، أي من سمنة البطن. وأسوأ أيضاً من وجود السمنة نفسها لدى المرء.

ودعونا نراجع قليلاً قصة هذا الخبر الطبي المثير للدهشة بحق. وتقول القصة ان هذه الدراسة الطبية كانت الأولى في محاولة استكشاف ما إذا كان ثمة رابط فيما بين تراكم الشحوم حول القلب، وبين نشوء تلك التضيّقات القاسية والمتكلسة في داخل الشرايين التاجية للقلب.

وكانت الأنباء الطبية قد حملت لنا في ديسمبر من عام 2006 خبراً مفاده أن المؤسسة القومية للصحة بالولايات المتحدة وغيرها، قد اعتمدت رصد عدة ملايين من الدولارات للباحثين في كلية الطب بجامعة «ويك فورست» كي يُحاولوا معرفة علاقة كتلة الشحوم المترسبة حول القلب باحتمالات الإصابة بمرض تصلب الشرايين والجلطات القلبية. وأتت تلك الخطوة ضمن محاولات العلماء فهم تأثيرات اختلاف أماكن تراكم الشحوم في الجسم.

والنظرة الطبية اليوم لشحوم الجسم هي أنها «عضو» ذو أحجام مختلفة بين الناس، ويتوزع على مناطق عدة في الجسم، وبنسب متفاوتة. أي إما في البطن أو الأرداف أو غيرها. والهدف الأساسي لوجود كتلة معتدلة من الشحوم في الجسم هو «وسيلة لخزن الطاقة». إلا أن «عضو الشحم» هذا قد يتحول إلى «جسم شحمي» متغلغل في أرجاء الجسم. وبدلاً من أن يكون مخزناً معقولاً للطاقة، يتحول إلى جسم غريب في هيئته وعجيب في تصرفاته ومهيمن في نفوذه. ذلك أن الجسم الشحمي «الدخيل» يبدأ في إنتاج هورمونات على مزاجه، ويمنع عمل هورمونات أخرى، أيضاً بمزاجه ونفوذه، ويُنتج مواد مُثيرة للالتهابات الدقيقة فيما حوله، ويتحكم في مقدار ضغط دم شرايين الجسم، وحلقات أخرى من سلسلة لا تنتهي للتدخلات الشاذة والضارة بالجسم وأنظمته الحيوية.

وما حاول الباحثون معرفته هو نوعية التأثيرات الضارة لكتلة الشحم المتراكمة حول القلب. وقال الباحثون في حيثيات دراستهم إنهم يُحاولون معرفة صحة فكرة طبية جديدة تقول بأن كتلة الشحم المتراكمة حول عضو ما تضرّ بعمل هذا العضو. والقلب أحد هذه الأعضاء المُستهدفة بالدراسة.

وكان بحثهم تفرعاً عن دراسة «ميسا» الطبية. وهي دراسة قائمة منذ فترة، وتشمل حوالي سبعة آلاف شخص من مختلف مناطق وأعراق الولايات المتحدة، ومن أعمار مختلفة، حول مسببات أمراض شرايين القلب. ومن المتوقع أن تصدر كامل نتائج دراسة «ميسا» فيما بعد عام ألفين وعشرة.

وركّز باحثو جامعة «ويك فورست» على الجانب المذكور آنفاً. وتوصلوا، ضمن نتائجهم الصادرة هذا الشهر، إلى أن الشحم المتراكم على القلب، وليس الشحم المتراكم في بقية الجسم، هو المؤشر الأقوى على ارتفاع احتمالات الإصابة بالترسبات الكوليسترولية المتكلسة في شرايين القلب.

وقال الباحثون بأنهم سيواصلون الدراسة لمعرفة ما إذا كان تخفيف حدة تراكم الشحوم على القلب سيُخفف من احتمالات الإصابة بأمراض الشرايين القلبية. وهذا الكلام لو ثبتت صحته، فإنه يعني اكتشاف استراتيجية جديدة لمعالجة أمراض شرايين القلب والوقاية منها.

والواقع أن نظرة الطب إلى الشحوم آخذة في التطور الإيجابي، خاصة اماكن وجود الشحوم في الأعضاء أو ما حولها. والقلب ليس المثال الوحيد اليوم، بل سبقه مثال آخر، وهو الكبد. وإلى فترة قريبة لم يكن يُبدي أطباء الكبد كبير اهتمام إلى تشخيص وجود حالة «تشحّم الكبد»، أي تراكم الشحوم في خلايا الكبد وما حولها. لكننا بدأنا نسمع في السنوات القليلة الماضية تحذيرات طبية من أضرار تراكم الشحوم في الكبد، إلى حد بدء اعتبارها أحد أسباب التهابات الكبد وتليّفه. وأخذ أطباء الكبد على عاتقهم بدء معالجة المُصابين هؤلاء لتنقية أكبادهم مما تغلغل فيها من شحوم. وربما قريباً، سنجد أن أطباء القلب يهتمون بإزالة ما «ران» تراكم حول القلب من شحوم، حماية لشرايينه من الأمراض.

الشحوم في الجسم حكاية طويلة ومحزنة، وفصول جديدة للحكاية هذه لا تزال تُكتب كل يوم. وموروثات الطب القديم لا تزال غنية بما على الأطباء اليوم الاستفادة منه <