جهاز المناعة..قوة دفاع طبيعية

يعمل مثل تحصينات المدن ضد البكتيريا والفيروسات غير المرئية

TT

ما لا يعرفه العديد منا ان الجهاز المناعي يتصدى لعدد لا يحصى من التهديدات الصحية التي لا تراها العين، ذلك ان هناك عدد لا يحصى من الكائنات الغريبة التي تتربص بكل موضع من مواضع الجسم البشرى كي تنقض عليه وتقهره.

وسواء كانت هذه الكائنات عبارة عن بكتيريا أو فطريات أو طفيليات أو فيروسات، فهي تبقى كائنات غير مرئية تنتقل عدواها للإنسان من خلال وسائل متعددة وأساليب كثيرة بعضها بصورة مباشرة وبعضها الآخر بصورة غير مباشرة. فهي قد تتواجد فى الهواء الذي نتنفسه أو في الماء والطعام الذي نشربه ونأكله أو حتى فى التراب الذي نمشى عليه وأحيانا نستنشقه. لذا كان لابد لنا من جيش دفاع حصين له عدة خطوط للدفاع عن الجسم.

وجدير بالذكر أن هذه الكائنات الدقيقة الموجودة حولنا، والتي تحاول أن تهاجم الجسم البشري، تقاتل أيضا من أجل البقاء، وتعمل كل ما يتسنى لها عمله للتحايل على جهاز المناعة في الجسم حتى لا يهاجمها ويقضى عليها، وتتحايل بدورها على الكثير من المضادات الحيوية التي يتناولها الإنسان بقصد قتلها والقضاء عليها فتغير من تركيبتها حتى يصبح المضاد الحيوي غير ذي قيمة بعد أن يكون فعالا وقاتلا لها في فترة من الفترات. ولمواجهة هذا الخطر تبدأ تحصينات الجهاز المناعي تماما مثل تحصينات المدن في حالات الحرب، وذلك من خلال حماية المداخل التي يمكن أن يبدأ منها الغزو. فى حالة الميكروبات فإنها تغزو الجسم إما من خلال الجلد أو العين أو الأنف أو الأذن أو الفم، أو من خلال فتحات الجهاز البولي والتناسلي،  ولحسن الحظ، فإن معظم هذه الهجمات تفشل بفضل جهاز المناعة المتأهب لصد أي شيء غريب عن الجسم. فاللعاب والدموع وإفرازات الأذن، مثلا، كلها تحتوى على إنزيمات قاتلة للبكتريا، كذلك المخاط المبطن للأنف والأغشية المخاطية، والشعر الموجود بها لحجز ما يمكن أن يتسلل إليها ومنعه من الوصول إلى الرئة، ثم خروجه مع السعال أو العطس. كما نجد أن المعدة تحتوى على حامض الهيدروكلوريك الذي يقتل الكثير من الميكروبات، التي تصل إلى المعدة من خلال الطعام أو الشراب، ويمنعه من الوصول إلى الكبد وبقية أجزاء الجهاز الهضمي والدم، وإذا حدث ووصلت هذه الكائنات إلى الأعضاء الداخلية للجسم فإنها تجد خطوط دفاعية أخرى متربصة وجاهزة لاستقبالها والقضاء عليها.

وهذا يؤكد ان جسم الإنسان يتمتع بوسائل عديدة للدفاع عن نفسه بفضل جهاز المناعة، الذي لا يوجد له مثيل من حيث التكوين والكفاءة والتخصص في أي من الكائنات الحية على الإطلاق. فهو لا يقوم بدور المدافع فحسب الذي ينتظر الهجوم قبل ان يقوم بدوره، بل يعمل على استطلاع وتوقع أي خطر متوقع من خلال خلايا معينة تسير في الدم ومن خلال الأنسجة، ويكتشف وجود أي جسم أو كائن غريب عن الجسم لا يحمل بصمته الجينية أو بطاقته الشخصية التي يتعرف الجهاز المناعي عليها فلا يهاجمها. هذا ويعمل أيضا على تحديد نوعية وتركيب ما إذا كان الكائن الغريب من البكتيريا أو الفيروسات أو الفطريات أم الطفيليات أم من الخلايا السرطانية، وذلك حتى يتصدى لها بوسائله المتخصصة فى مواجهة كل نوع. لكن لا يسلم الحال دائما، ففى بعض الأحيان تتمكن هذه الكائنات الغريبة من اختراق تحصينات الجسم وإحداث بعض التغيرات والمضاعفات في أماكن مختلفة منه. وفى هذه الحالة نجد أن جهاز المناعة السليم أي الذي يعمل بكفاءة تامة يعود مرة أخرى لاستعادة قوته وتجميع قوته، فيتصدى لهذه الكائنات بالهجوم المضاد للإجهاز عليها. ويختلف الأمر عندما يكبر الجسم، ذلك ان كفاءة جهاز المناعة تقل، ويحدث هذا عادة فسن الشيخوخة وعندما يكون الإنسان مصابا بمرض مزمن ، أو يتعاطى المخدرات أو الأدوية التي تؤثر على جهازه المناعي وتضعفه. فى هذه الحالة يصبح الجسم أكثر تعرضا للإصابة بعدوى الأمراض المختلفة، وتكوين الأورام السرطانية أيضا في أماكن مختلفة من الجسم.

     ويمكن أن يحدث خلل فى كفاءة الجهاز المناعي للجسم بأشكال متعددة مما يسبب الإصابة بأمراض مختلفة، مثل الحساسية ونقص المناعة وأمراض المناعة الذاتية مثل الروماتويد والذئبة الحمراء والصدفية وغيرها. ولعل العلماء على حق عندما وجدوا تشابها بين الجهاز المناعي والجهاز العصبي المركزي للجسم في أشياء عديدة، أهمها الدقة المتناهية في التخصص والذاكرة والتكامل الوظيفي، الذي يجعل الأداء أشبه بأداء الأوركسترا السيمفوني فى الموسيقى.

والحقيقة أن معظم أسرار عمل ومكونات الجهاز المناعي وتفصيلاته قد تم اكتشافها خلال العشرين عاماً الماضية، نتيجة التقدم المذهل في علم المناعة والبيولوجيا الجزيئية والهندسة الوراثية، مما مكن العلماء من التوغل في أسرار هذا الجهاز. وفى كل يوم تضاف معلومات جديدة لنا، حتى أن أحد العلماء، ويدعى جون كابلر، يعمل في مركز المناعة بدنفر بالولايات المتحدة يقول :" إن مجال المناعة يتقدم بسرعة مذهلة لدرجة أن ما ينشر في المجلات العلمية بعد شهور من الاكتشاف يصبح قديما يوم أن ينشر لأن هناك معلومات أخرى أحدث منه تم اكتشافها. فكل يوم يأتي بالجديد فى علم المناعة، والعلماء يلهثون وراء هذه المعلومات التي تخص كل فروع الطب الأخرى مثل السرطان والايدز والعدوى بالفيروسات، وأمراض المناعة الذاتية   والحساسية وغيرها".

وربما كان ظهور أولى حالات الايدز في بداية الثمانينات ( 1981 ) بالولايات المتحدة السبب في تعريف الناس بعلم المناعة وأهميته. فهناك العديدون الذين لا يعلمون عن المناعة إلا أنه العلم الخاص بفيروس الايدز الذي يسبب "مرض نقص المناعة المكتسبة"، والذي يستهدف الجهاز المناعي كله فيؤثر على كفاءته. فالفيروس يهاجمه بشكل مباشر ويدمره، مما يجعل الجسم عرضة لكل أنواع العدوى من الميكروبات الفتاكة والهزيلة التي تحيط بالجسم وتكون سببا في إضعافه والقضاء عليه <