شعورك بأنك سمين.. أسوأ على جسمك من السمنة نفسها

تشويش الأذهان بمعلومات خاطئة عن الأمراض

TT

ما كان يُقال في موروثات الحكمة من أن على الإنسان أن لا يتمارض كي لا يمرض ويتضرر بالتالي جسمه، هو ما يتبناه الأطباء اليوم. والأمثلة متعددة ومتنوعة حول التأثيرات الضارة لكثرة انشغال الذهن في التفكير بالمرض الموجود فعلاً، وتوهم عواقب لا حقيقة لها أو مُحتملة. لكن المشكلة الأعظم، و “الطامة” الكبرى، حينما يتوهم شخص ما بأن لديه مشكلة صحية، في حين أنه خال منها، وخاصة حينما يكون السبب ناتج عن تشويش أذهان الناس بمعلومات طبية عن مدى انتشار الأمراض أو كيفية تخمين احتمالات وجودها أو الإصابة بها.

والقصة لا تعقيد فيها ولا غموض، لكن ما نحتاج إليه حقيقة ليس فقط زيادة معلوماتنا عن الأمراض، أياً كان نوعها ومسرح عملياتها، بل توسيع أفق فهمنا لما نعلمه عن الأمراض تلك، وإلى واقعية في تقدير مدى وأبعاد ضررها على حياتنا.

لننظر إلى السمنة كمثال حيوي شائع، وكشيء يمس حاجتنا إلى توسيع أفق فهمها وإلى واقعية في الخشية منها أو تحاشيها. ولنراجع سوياً تلك الدراسة المُلفتة للنظر، والصادرة في 23 يونيو ضمن العدد الأخير للمجلة الألمانية الدولية للأطباء “ديوتشي أرسيبلات إنترناشونال” Deutsches Arzteblatt International ، للباحثين من مؤسسة روبرت كوخ الطبية.

والنتائج التي توصل الباحثون إليها حول السمنة كانت من دراسة “ قسم الأطفال والمراهقين من إحصائيات مقابلة وفحص كل الألمانيين” أو التي تُختصر باسم دراسة (KiGGS). وفيها تابع الباحثون حوالي 7000 ولد وبنت ممن تراوحت أعمارهم ما بين سن 11 و 17 سنة. ومن ضمن ما تمت دراسته مقدار وزن الجسم، كما تم رصد نوعية الانطباع الشخصي لكل واحد منهم عن مقدار وزنه، وتراوحت الانطباعات حوله ما بين “نحيف جداً” و “سمين جداً”. وعبر الإجابة المباشرة على عدد من الأسئلة، تم تجميع معلومات يُستدل بها عن نوعية الحياة التي يعيشونها.

وتوصل العلماء إلى حقيقة مفادها أن ثلاثة أرباع المراهقين كانوا من ذوي الأوزان الطبيعية. ولكن “الغرائب في الأمر”، من نتائج الدراسة، كانت متعددة. وظهورها، عند البحث على مستوى الأطفال والمراهقين، يُثير بالفعل تساؤلات علمية عن مدى انتشارها عند البحث على مستوى الشابات والشباب. ودون الإطالة في “النحيب”، فإن ما كان مُستغرباً بشكل مُلفت هو ما يلي:

الأمر الأول، أن حوالي 55% من الفتيات وحوالي 35% من الأولاد، كانوا يعتقدون جازمين بأن أوزان أجسامهم عالية وأنهم “سمينين جداً”! هذا بالرغم من أن حوالي 18% منهم فقط كانت أوزان أجسامهم عالية، أي بالفعل “سمينين”. وأن 8% منهم كانت أوزان أجسامهم دون المستوى الطبيعي المطلوب، أي “نحيلين”! والأمر الثاني، أن “نوعية الحياة” التي يعيشها الشخص السمين، من الأطفال أو المراهقين، كانت ذات مستوى مُتدن. وهذا أمر مُتوقع ومفهوم لاعتبارات متشعبة في النواحي النفسية والعاطفية والبدنية والحركية والتجميلية والتعليمية وغيرها. لكن المشكلة أن تدني مستوى “نوعية الحياة” لم يكن حصراً ذا علاقة فقط بالمقدار الفعلي لوزن الجسم، بل مرتبط بشكل أوثق بـ “الانطباع الشخصي” لكل طفل ومراهق عن مقدار وزن جسمه. أي أن “نوعية الحياة” أصبحت مُرتبط بنوعية ما “يتوهم” الواحد منهم عن مقدار وزن جسمه! وبالنتيجة، يعيش ذلك المراهق أو تلك المراهقة نوعية متدنية من الإقبال والممارسة لأنشطة الحياة بسبب أوهامه، التي يُمكن أن تزول في لحظة متى ما كلّف نفسه عناء الذهاب إلى الميزان والوقوف عليه لمعرفة مقدار وزن جسمه!. وما أكد الباحثون عليه في نتائج دراستهم أن مشكلة تبعات وتداعيات “الانطباع الشخصي” تكون أكثر وضوحاً لدى الفتيات المراهقات. وهذا بداهة مُتوقع، نظراً لما يعنيه الجمال وتناسق القوام الرشيق والجذاب للمراهقة، مقارنة بالمراهق.

وبلغة بسيطة في اختصار الكلام الذي تقوله نتائج هذه الدراسة، تكون العبارة: ثمة “خطأ مُركّب” يعيش نتائجه كثير من المراهقات والمراهقين، وحتماً كثيرٌ من الشابات والشباب. ووفق تصنيف أهل الفلسفة، فإن “الخطأ المُركّب”، مقارنة بـ “الخطأ البسيط”، يتكون نتيجة تراكم عدة مقدمات غير صحيحة، وصولاً إلى مشكلة أكثر تعقيداً في الحل وأبلغ ضرراً في الأثر.

ولأحدنا أن يسأل، من تأتي مثل هذه المشكلة الصحية المُركّبة؟. ولما يُعاني منها بالذات المراهقون والشباب؟.

والإجابة لا يُمكن تلخيصها، لأن من الأجوبة ما لا يحتمل ذلك. ولكن أهم أسباب هذه المشكلة يكمن في جانبين. الأول، تلك الممارسات الصحية، وفي جانب التثقيف الصحي بالذات، المعتمدة على الإثارة في عرض المعلومات الطبية والصحية. وهو ما ينتج عنه لا محالة تشويش ذهني في فهم الأمراض وأوصافها وعلاماتها وتداعياتها. ولأن لا أعز من الصحة وسلامة الحياة، ولا أخوف من المرض وتبعاته، فإن البعض “يرتعد فرقاً” و “يفر رعباً” من أي شيء يُقال طبياً عنه أنه “من المحتمل” أن يكون سبباً في كذا أو كذا من الأمراض أو تداعياتها. هذا مع العلم أنه “لا يُفر إلا من المجذوم كالفرار من الأسد”.

والجانب الأخر، ما عبّر عنه الباحثون بالقول إن المراهقات والمراهقين يعيشون قدراً “ذا وزن وأهمية متنامية” من الضغوط الاجتماعية كي يبقوا نحيلين ويبتعدوا عن وصمة stigma زيادة الوزن. وأضافوا، إن نسبة المراهقات اللواتي يعتقدن بأن أوزانهن زائدة، آخذة في الارتفاع. وهذه النسبة لم تكن عالية في السابق كما هو الحال اليوم.

ولئن كانت الحكمة تقول “رفقاً بالقوارير”، فإن من أرق وألطف الرفق الواجب هو “الرفق بالقوارير الصغار” <

* استشاري باطنية وقلب مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض [email protected]