الدواعي الطبية لصوم الأطفال.. ساعات من المعاناة

ما قبل العمليات الجراحية ولتحاليل الكولسترول والسكر

TT

تشير مصادر اللغة إلى أن الصوم كلمة عامة تُستخدم لوصف حالة اختيار الامتناع والانقطاع عن فعل شيء ما. والانقطاع قد يشمل فعلاً واحداً أو يشمل عدة أفعال. وعلى سبيل المثال، هناك صوم المسلمين في نهار أيام شهر رمضان عن الأكل والشرب. وللأديان السماوية الأخرى، طقوس أخرى في الأشياء التي يمتنع عنها الصائم خلال فترة الصوم. وفي مقابل أنواع الصوم السلوكي، هناك الصوم الطبي.

وبين الصوم السلوكي الديني والصوم الطبي، يُمثّل الأطفال شريحة من الناس الذين قد يعنيهم الأمر أو قد لا يعنيهم. ذلك أن في الجانب الديني، وخلال صوم شهر رمضان، لا يُطلب من الأطفال الصوم، بل يبدأ إلزامهم بأداء الفرض عند البلوغ. أما في الجانب الطبي، فهناك حالات من الصوم اللازم على الأطفال، أي الانقطاع عن تناول المأكولات والمشروبات لفترات زمنية معينة. وطرح موضوع “الصوم الطبي للأطفال”، يشمل عنوانين رئيسيين. الأول، صوم الأطفال الإلزامي لدواع طبية في الفترة التي تسبق إجراء العمليات الجراحية، أي عن تناول الطعام والشراب لمدة قد تصل إلى 8 ساعات. والثاني، صوم الأطفال الإلزامي لدواع طبية تتعلق بفحوصات الدم، وخاصة تحليل الكولسترول الذي يتطلب الصوم عن تناول الطعام لمدة 12 ساعة، وتحليل سكر الغلوكوز في الدم الذي يتطلب الصوم عن تناول الطعام لمدة 8 ساعات.

* صوم ما قبل العملية الجراحية

* من الممارسات الطبية الشائعة اليوم، والمتفق بين جميع الأطباء على أهمية الالتزام بها إن أمكن، امتناع المريض تماماً عن الأكل أو الشرب لفترة زمنية قبل العملية الجراحية التي تتطلب التخدير anesthesia. وإبقاء المريض تحت حالة “لا شيء عبر الفم” nil by mouth. والأصل في صوم ما قبل العملية الجراحية، منع حصول مضاعفات محتملة أثناء التخدير العام. وتحديداً، منع حصول حالات السحب الرئوي pulmonary aspiration. أي الحالات التي تدخل فيها إلى الرئة تلك المواد الموجودة في محتويات المعدة stomach contents ، من طعام وشراب وعصارات هاضمة، تحت تأثير التخدير.

وتشير مصادر طب التخدير إلى أن دخول كميات صغيرة، بحجم 25 مليلترا، من محتويات المعدة، وذات درجة حموضة pH أقل من 2,5، إلى الرئة خلال تخدير العمليات الجراحية، كاف بذاته للتسبب بمضاعفات صحية خطيرة على سلامة الرئة، وبالتالي خطيرة على سلامة حياة الإنسان. وأن صوم الإنسان في الفترة التي تسبق البدء بالعملية الجراحية، هو أحد أفضل الوسائل الممكنة لتقليل حجم محتويات المعدة. وسبب الاحتمال هذا، أن المريض حينما يتلقى الأدوية التي تعمل في محصلتها على تحقيق تخدير الجهاز العصبي، فإن المريض يحصل لديه كل من، الغياب عن الوعي وإزالة الشعور بالألم وإحداث حالة من الاسترخاء الشديد في عضلات الجسم. وفي أثناء هذه الحالة من التخدير العام، ترتخي عضلات المعدة والمريء والحلق. وبالتالي فإن تأثير ارتخاء العضلات، التي تعمل حال انقباضها لدى المرء الفائق على منع وصول محتويات المعدة إلى الحلق، سوف يتلاشى بلا شك. ويُصبح من الممكن أن تصل محتويات المعدة، من طعام وسوائل وافرازات حمضية، إلى الحلق، ومن ثم سحبها إلى القصبة الهوائية للرئة مع شهيق عملية التنفس، وصولاً إلى مناطق أعمق في داخل الرئة. وهذه المواد غير النظيفة والحامضة حينما تصل إلى أنسجة الرئة، فإنها قد تُحدث سد مجاري الهواء في الرئة، أو التهابات كيميائية في أنسجة الرئة، ما قد يُؤدي إلى تدهور وظائف الرئة، وما قد أيضاً يُؤدي إلى التهابات ميكروبية، قد تكون من نتيجتها الوفاة، دون أي مجاملة أو تلطيف في عبارة الوصف.

* عوامل الإصابة بـ«سحب الرئة»

* وبالرغم من أن الإحصائيات اليوم تشير إلى أن معدلات الإصابة بحالات “سحب الرئة” لمحتويات المعدة، لا تزال غير مرتفعة. وذلك خلال الفترة الزمنية التي تشمل البدء في غرفة العمليات بإجراءات التخدير للعملية الجراحية إلى حين الفراغ منها وإفاقة المريض من التخدير، أي perioperative ، إلا أن ثمة عوامل يُمكنها أن ترفع من هذه الاحتمالات لجهة حصول سحب الرئة ووصول كميات من محتويات المعدة إلى مجاري التنفس. وهو الأمر الذي يتطلب بالتالي الحرص على إطالة أمد صوم المعدة عن تلقي الأطعمة والمشروبات، والحرص على اتخاذ تدابير أخرى للحيلولة دون حدوث تلك المشكلة.

وثمة آليات مهمة، من خلال أمثلة حصولها، ترتفع احتمالات حصول “سحب الرئة” لمحتويات المعدة. وهي:

* أولاً، ارتفاع الضغط على المعدة. وذلك في حالات:

- سمنة البطن.

- وجود الحمل.

- وجود حالة الاستسقاء Ascites ، أي تراكم الماء السابح خارج الأعضاء في البطن.

- امتلاء المعدة بالطعام والشراب.

* ثانياً، اضطرابات عملية إفراغ المعدة. وذلك في حالات:

- وجود إعاقة في مجاري القناة الهضمية، مثل ضيق منطقة مخرج المعدة إلى الأمعاء الدقيقة pyloric stenosis ، أو أي تضيق في مناطق أخرى من الأمعاء bowel obstruction.

- وجود مرض السكري، خاصة عند حصول مضاعفات له على أعصاب الجهاز الهضمي.

- استخدام الأدوية المخدرة من النوع الأفيوني Narcotic ، خلال تخدير العملية الجراحية.

* ثالثاً. اضطرابات التحكم في حجز محتويات المعدة أو اضطرابات التحكم في عضلات الحلق الحاجزة لدخول غير الهواء إلى الرئة. وذلك في حالات:

- إجراء عملية في المريء.

- وجود فتق في الحجاب الحاجز Hiatal hernia ، أو مرض ارتداد محتويات المعدة إلى المريء gastroesophageal reflux disease.

- وجود صعوبات في مجاري التنفس تؤثر على أداء عملها بكفاءة.

- وجود أمراض في الجهاز العصبي، مثل نوبات التشنج seizures في مرض الصرع، أو إصابات الرأس.

* رابعاً، إثارة عملية القيء. وذلك في حالات:

- عدم التحكم في شعور المريض بالألم. - عدم حصول تخدير للمريض بدرجة كافية.

- قلق المريض بشكل مفرط قبل العملية الجراحية.

وإضافة إلى الصوم والامتناع عن تناول الطعام والشراب للتقليل من محتويات المعدة، فإن إفراز المعدة للأحماض الهاضمة، يجب هو الآخر العمل على تقليله أو منعه. ولعل المستحضرات الدوائية المُضادة للحموضة، مفيدة حال تناولها في الليل حينما يكون وقت إجراء العملية في الصباح، أو تناولها في الصباح حينما يكون وقت العملية في فترة ما بعد الظهر. وفي حالات معينة يُنصح بإعطاء أدوية أقوى في منع إفراز المعدة للأحماض، كمرضى السكري المُصابين ببطء في عملية إفراغ المعدة، ضمن مضاعفاته التي تُصيب عمل الأعصاب بالاضطرابات، أو لدى الذين يُعانون من زيادة إفراز المعدة لأحماضها الهاضمة أو منْ لديهم فتق في الحجاب الحاجز أو سدد في مجاري مخارج المعدة. أو لديهم أحد العوامل المتقدمة الذكر قبل قليل.

* أنواع الأطعمة وإفراغ المعدة

* وللمعدة الطبيعية نظام في إفراغ محتوياتها من المأكولات أو المشروبات التي يتناولها الإنسان. بمعنى أن هذا النظام يتم تطبيقه في حال عدم وجود اضطرابات في حركة القناة الهضمية، وفي حال عدم وجود أي إعاقة لجريان الطعام فيها.

والأساس أن الأطعمة الصلبة والحليب الحيواني والسوائل العكرة، تستغرق وقتاً أطول من السوائل الصافية في الخروج من المعدة إلى الأمعاء. وحتى من بين أنواع الأطعمة الصلبة، فإن الدهون في المأكولات المقلية والدسمة، والألياف النباتية للسيليوز، هي ما تتسبب في بطء إفراغ المعدة لمحتوياتها.

ووفق ما تشير إليه نشرات الباحثين من مجمع تخدير الأطفال في الولايات المتحدة، فإن الأطعمة الدسمة والمقلية واللحوم والبقول والمكرونة والأرز، قد تبقى إلى حد 8 ساعات في المعدة. والوجبات الخفيفة light meal والحليب، إلى حد 6 ساعات. وحليب ثدي الأم يبقى حوالي 4 ساعات في معدة الطفل الرضيع. والسوائل الصافية clear liquids إلى حد 2 ساعة.

وفي تعريفهم للسوائل الصافية، قالوا بأنها التي إذا ما وُضعت في كأس زجاجي شفاف، أمكن الرؤية من خلالها. وذلك مثل الماء وعصير التفاح والمشروبات الغازية. وأي سائل لا يُمكن الرؤية بوضوح من خلاله، أي مثل عصير البرتقال والحليب الحيواني، يجب اعتباره “وجبة خفيفة”. والـ “وجبة الخفيفة” هي التي تتكون مثلاً من شرائح خبز التوست مع القهوة أو الشاي، أو شوربة الخضار فقط، أو حلويات “الجلي”.

ومما يجدر ذكره، أن البعض قد لا يُلقي بالاً لمضغ العلك أو تناول سكاكر الحلويات. والواقع أنها تُثير زيادة إفراز الغدد اللعابية وإفراز المعدة للأحماض، ما يزيد من حجم محتويات المعدة. ووفق التوجيهات الطبية، فإن على المرضى عدم تناول المشروبات الكحولية لمدة 24 ساعة على أقل تقدير قبل العملية الجراحية.

* إرشادات صوم ما قبل العملية

* وبمحصلة التطورات العلمية في مراجعة الممارسات الطبية، من ناحيتي مدى واقعيتها ومدى فائدتها، أصبحت النصائح الطبية للصوم عن تناول الأطعمة وتناول السوائل الصافية أكثر تحرراً وأفضل في نتائجها لجهة منع حصول حالات “السحب الرئوي”. وكان المجمع الأميركي لأطباء التخدير ورابطة أطباء التخدير في بريطانيا، قد توافقوا في إرشاداتهم الأخيرة مع النتائج المشجعة والواقعية للباحثين من أطباء التخدير في كندا، وذلك بالنسبة للصوم قبل العمليات الجراحية المبرمجة سلفاً، أي دون تلك الإسعافية المستعجلة. وبالتالي أصبحت الإرشادات تشير إلى أن على البالغين وعلى الأطفال الذين تتجاوز أعمارهم 3 سنوات، الصوم عن تناول وجبات الطعام الدسمة والثقيلة لمدة 8 ساعات قبل العملية الجراحية. وعليهم أيضاً الصوم عن تناول الوجبات الخفيفة قبل 6 ساعات من وقت العملية الجراحية. والتوقف عن شرب الماء أو أي سوائل صافية أخرى، قبل 3 ساعات من وقت العملية الجراحية. مع التأكيد على أن حليب الحيوانات وحليب الأطفال الصناعي، يُعتبر مثل الوجبة الثقيلة الدسمة، ويبقى في المعدة مدة 6 ساعات، بخلاف حليب ثدي الأم الذي يبقى في معدة الرضيع 4 ساعات.

أما بالنسبة للأطفال ما بين سن 6 أشهر و 3 سنوات، فإن عليهم الامتناع عن تناول الوجبات الثقيلة لمدة 6 ساعات قبل العملية الجراحية، وعن تناول الوجبات الخفيفة قبل أربع ساعات، وعن شرب السوائل الصافية قبل 3 ساعات من موعد العملية الجراحية.

والأطفال ما دون سن 6 أشهر، عليهم عدم تناول أطعمة دسمة، مثل الحليب الحيواني، قبل 4 ساعات من العملية الجراحية. وبدء الامتناع عن تناول الماء أو أي سوائل صافية أخرى قبل 2 ساعة من موعد بدء التخدير للعملية الجراحية <

* ما قبل العملية الجراحية تطورات علمية لتحديد أدنى أوقات الصوم

* تشير مصادر رصد مراحل تطور الطب تاريخياً، إلى أن أولى التلميحات العلمية لضرورة عدم وجود مواد صلبة في المعدة عند التخدير للعمليات الجراحية بمادة كولوروفورم ، كانت في عام 1883 من قبل بارون جوزف لستر، الجراح الإنجليزي. وأشار حينها صراحة إلى أن من الممكن تناول كوب من الشاي قبل ساعتين من موعد العملية. وسار معظم الجراحين وأطباء التخدير وفق هذه النصيحة.

وفي عام 1946، نشر الدكتور ميندليسون أحد الدراسات المهمة، والتي أشارت إلى ارتفاع نسبة الإصابات بحالات “السحب الرئوي” pulmonary aspiration خلال عمليات التخدير الكلي لمريضات الولادة obstetric patients. وبعد نشر هذه الدراسة، ظهرت ممارسة ما يُعرف بـ “لا شيء بالفم من بعد منتصف الليل” nil per os after midnight في ليلة العملية الجراحية. وأصبح، كما تشير مصادر تاريخ الطب، من أولى الاهتمامات في العناية الطبية ما قبل العملية الجراحية، وأحد أحجار زاوية التخدير السليم والآمن، العمل على الوقاية من وصول محتويات المعدة إلى الرئة. ولاحظت المراجعات الطبية أن حوالي 20% من حالات حصول ارتداد محتويات المعدة ووصولها إلى الحلق، يُؤدي إلى الإصابة بحالات “السحب الرئوي”. كما لاحظت تلك الدراسات أن إحصائيات المستشفيات تختلف في معدل حصول ارتداد محتويات المعدة. ومنها منْ لا تتجاوز النسبة فيها 0,7 لكل 10 ألاف عملية تخدير كلي، ومنها منْ تصل النسبة فيها إلى 11 لكل 10 ألاف حالة تخدير كلي، الأمر الذي يُشير بطريق غير مباشر إلى تفاوت إتباع المرضى للتعليمات أو تفاوت الأطباء في مدى حرصهم على التعليمات الخاصة بالوقاية من تلك الحالات أو تفاوت مستوى ممارسة أطباء التخدير لعملية التخدير أو ارتفاع الحاجة إلى إجراء عمليات جراحية إسعافية بلا تأخير.

واتجه أطباء التخدير إلى إعطاء تعليمات صارمة حيال الصوم للتأكد من خلو المعدة، أي عدم تناول أي شيء عبر الفم من منصف الليل، أو لمدة ثمان أو ست ساعات. إلا أن بعض الدراسات الطبية حاولت مراجعة الأمر، وتوصلت إلى تعديلات مبنية على براهين علمية، تُعطي مزيداً من الراحة للمرضى وتُحقق المطلوب في خلو المعدة. وفي دراسة الدكتور واتسن، والمنشورة عام 2002، تحدث عن عدم واقعية مثل هذه النصائح العامة. وخاصة في عدم اعتبارها الاختلاف في قدرات المعدة على إفراغ محتوياتها من الأطعمة الصلبة أو السوائل، وفي عدم مناسبتها للأوقات الحقيقية التي ستُجرى فيها العملية الجراحية، أي وفق جدول ترتيب الحالات.

وطرحت دراسات أخرى تساؤلات حول حقيقة تأثير الامتناع عن شرب السوائل في الحصول على معدة خالية empty stomach. وقالوا إن الصيام لا يُقلل من حجم العصارات الموجودة في المعدة، ولا يُقلل من درجة حموضة الإفرازات فيها. وأشاروا صراحة إلى أن تناول السوائل الصافية قبل العملية الجراحية لم يثبت أنه يرفع من احتمالات حصول حالات “السحب الرئوي”. وأكدوا أن النصيحة الصارمة بالصوم عن تناول السوائل الصافية طوال تلك الساعات ليس فقط شيءٌ غير مفيد، بل هو ربما ضار. وأنه يُؤدي بداهة إلى العطش والانزعاج العام والجفاف، وربما انخفاض نسبة سكر الدم. وقالوا بأن صوم الرجل البالغ قد يحرم الجسم من كمية لتر من السوائل، الأمر الذي قد يكون سبباً في التعب وفي مضاعفات صحية على المريض الخارج من العملية الجراحية. وكانت عدة دراسات قد أكدت أن السوائل الصافية تخرج بسرعة من المعدة، كما أكدت أن كمية ما في المعدة من سوائل عند العملية الجراحية لا يختلف بين من يصوم من منتصف الليل ومن يصوم عن السوائل لمدة ساعتين.