الذكاء البشري بين «المردود العاجل القليل والآجل الكثير»

«غير رزقك مش حتحوش»

TT

لو أن أحدنا تم تخييره بين أخذ ألف دولار اليوم، وبين أخذ عشرة آلاف دولار بعد خمس سنوات، ما الذي نتوقع أن يقرره الإنسان الذكي في وجه نظر الغالبية؟ ولو أن أحدنا طُرح عليه السؤال التالي: هل الغنى شيء مرتبط بالذكاء وارتفاع مستوى القدرات العقلية، أم أن الذكاء لا علاقة له بالغنى أو الفقر؟

الجواب على هذه الأسئلة، هو مما يختلف الناس فيه، إما بناءً على مشاهداتهم الحياتية أو توقعاتهم الظنّية أو خلفياتهم الاقتصادية النفسية. بيد أن للباحثين في الطب النفسي رؤية أخرى لموضوع ارتباط الذكاء العقلي بالقرارات المتعلقة بالحصول على المال، أو أي متاع أخر، ورؤية أخرى في علاقة الغنى بالذكاء.

دعونا نُراجع ما نشره الباحثون من جامعة يال بالولايات المتحدة في الحادي عشر من الشهر الحالي، وما نشره الباحثون من جامعة ولاية أوهايو في إبريل من العام المنصرم.

قال الباحثون من جامعة يال، ان المتخصصين في الطب النفسي يستخدمون عبارة «حسم وإلغاء التأخير» delay discounting، في وصف عدم قدرة الإنسان على مقاومة إغراء الحصول السريع على مردود قليل، بدلاً من الحصول على مردود أكبر في وقت لاحق. ويرون أن إهمال المردود المستقبلي، هو احدى صور الأمور التي يقوم بها المرء قهراً وإجباراً، أي التي لا سبيل لمقاومتها طالما لم يتدرب على ضبط تفاعل نفسه إزاءها.

وأضافوا، ان البحوث السابقة اشارت إلى أن ارتفاع مستوى الذكاء intelligence مرتبط بقدرات أفضل على ضبط النفس self-control في التصرفات. وأن ثمة فكرة علمية مفادها أن مناطق معينة في الدماغ تلعب دوراً مهماً في ضبط العلاقة ما بين الذكاء والقدرة على ضبط النفس في القرارات المتعلقة بالحصول على المردود. وهذه المناطق الدماغية معنية بقدرات نشاط الذاكرة القصيرة short-term memory ، وتقع في المنطقة الأمامية من جزء ما قبل ناصية قشرة الدماغ. وهي احدى المناطق الدماغية التي تتطور وينضج نموها في أواخر مراحل نمو الدماغ البشري، أي أنها منطقة متقدمة جداً في أهمية ودقة وظيفتها الذهنية العالية، والتي ليس بالضرورة أن تعمل لدى كل الناس بصفة عالية الكفاءة. ومن أجل ذلك قام الباحثون بدراسة نوعية الاختيار لدى أكثر من مائة شخص من البالغين، في ما بين الحصول على أحد مردودين، الأول قليل عاجل، والأخر كثير آجل. وبعد إجراء فحوصات واختبارات تقييم مدى القدرات العقلية في مستوى الذكاء، ومدى قوة الذاكرة القصيرة، قام الباحثون بإجراء تصوير وظيفي بالرنين المغنطيسي للدماغ خلال اختبار التخيير ما بين نوعي المردود. ومعلوم أن هذا النوع من تصوير الأشعة يرصد مدى زيادة أو خمول النشاط الدماغي في مناطق دون أخرى، خلال فترات التصوير.

ووفق ما تم نشره في عدد سبتمبر من مجلة رابطة العلوم النفسية الأميركية، تبين للباحثين أن الأشخاص الذين حققوا مستويات عالية في تقييم الذكاء والذاكرة، أظهروا قدراً أكبر في ضبط النفس لجهة تفضيل الكثير الآجل. كما أظهرت صور الرنين المغنطيسي أنه خلال اتخاذ هذا القرار الذكي، كان لديهم نشاط دماغي أكبر في مناطق الذكاء الذهني المتطورة في الدماغ. ويرى الباحثون أن نتائجهم مهمة لجهة الاستفادة التطبيقية منها في تنمية القدرات الذاتية على ضبط النفس أمام إدمان المخدرات، أي استخدام أشياء ذات مردود سريع في الحصول على اللذة. كما انها مهمة إزاء الإقدام على ألعاب القمار وبعض القرارات المالية في سوق الأسهم والعلاقات والاجتماعية، التي يُحاول البعض من خلالها كسب أكبر وأسرع قدر من المال.

ولكن الذي لم يتحدث الباحثون عنه هو: هل اتباع الأذكياء لهذا الأسلوب في اتخاذ قرارات الجانب المالي، لجهة تفضيل المردود الآجل الأكبر، سيُؤدي بهم إلى الحصول على كميات أكبر من المال على المدى الطويل؟

ولا يبدو أن هناك إجابة واضحة على هذا السؤال. إلا أن الإجابة ستكون «لا» للأسف، على الأقل وفق ما تشير إليه دراسة الباحثين من جامعة ولاية أوهايو، وهي التي اعتمدت على نتائج مراجعة دراسة قومية واسعة في المجتمع الأميركي. وخلصت الدراسة إلى أن بلوغ الغنى المادي لا يتطلب بالضرورة من المرء أن يكون بذكاء علماء الذرة وعلماء الطب وعلماء الأحياء الدقيقة. وقال الدكتور جاي زاغورسكي، الباحث الرئيس في الدراسة، إن الناس لا يُمسون أغنياء لأنهم أذكياء. وأنت لن تكون غنياً لأنك تُسجل معدلات عالية في تقييم مستوى الذكاء، آي كيو IQ test. وثمة الكثير من الناس الأذكياء جداً يقعون في متاعب مالية. إلا أن الباحثين لاحظوا أيضاً أن الذكاء مرتبط فقط بارتفاع مقدار المرتب الشهري الذي يتقاضاه الشخص كأجر على عمله الوظيفي. وتعتبر هذه الدراسة، المنشورة في عدد إبريل 2007 لمجلة الذكاء العلمية، من أوائل الدراسات الطبية النفسية التي بحثت بشكل علمي نفسي فيما أبعد من علاقة الذكاء بارتفاع الأجر الشهري، أي العلاقة بين الذكاء والوصول إلى حالة الغنى المادي. وهي دراسة شملت حوالي 7500 شخص، وتابعتهم لمدة تُقارب 30 عاما.

وبالرغم من الملاحظة الحياتية المعلومة بأن هناك بوناً شاسعاً بين حالة الغنى المادي وبين ارتفاع الأجر الشهري، والتي أكدتها نتائج هذه الدراسة الواسعة والفريدة، إلا أن الباحثين احتاروا في الإجابة على عدم توافق ارتفاع الأجر الشهري مع بلوغ حالة الغنى.

ولا تزال جوانب كثيرة من فهم التفاعلات النفسية وعواقبها، في جانب البحث عن المال، تحتاج إلى مزيد من الدراسات الطبية النفسية. وإلى حين فراغ الباحثين من الإجابات عن كل الاستفسارات، يظل المرء متمسكاً بالمثل القائل «اجري جري الوحوش، غير رزقك مش حتحوش» <