الأشجار تصنع الأسبرين.. لتُعالج نفسها وتُعالج الناس

يُخفف من آلامها ويُداوي جراحها

TT

لأن المصدر الأهم للعقاقير الطبية، وعلى مرّ العصور، هو النباتات والأعشاب، فإن من المهم أن نعرف لماذا ومتى وكيف تُنتج النباتات تلك المواد الكيميائية الطبية. وكنت قبل بضع سنوات قد عرضت الاستخدامات الطبية للأسبرين في ملحق الصحة بـ «الشرق الأوسط». وذكرت أن الأطباء اليونانيين القدماء استخدموا مُستخلصاً ذا طعم مرّ من لحاء أشجار الصفصاف في تخفيف ألم مرضاهم، وأن الباحثين الألمان، قد اكتشفوا عام 1889 وجود مادة «سليسيليك أسيد» في لحاء أشجار الصفصاف. وهي المادة التي استخدمها البشر لقرون في تخفيف الألم والالتهابات وخفض حرارة الجسم. وكان أن علّق أحد الأساتذة الأطباء على تلك المعلومة بالذات، تاركاً كل المعلومات الأخرى في مقال عرض الأسبرين، بسؤاله: يا دكتور، لماذا تُوجد مادة الأسبرين في لحاء تلك النوعية من الأشجار؟

والأساتذة الأطباء في تعليقاتهم الدقيقة والمختصرة، على طرح المعلومات الطبية ونتائج الأبحاث والدراسات فيها، إنما يقصدون تحفيز همّة الباحث إلى مزيد من البحث عن السبب والعلة. وهذه النوعية الإيجابية من التعليقات، هي التي تُثري النقاش العلمي. وهي التي تدل الباحث على الأبواب التي يجب عليه فتحها لتوسيع فهم البشر عموماً، والأطباء خصوصاً، للأمراض والأدوية وغيرها من جوانب الطب.

وفي الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر الماضي، طرحت مجلة «بيوجيوسينس» journal Biogeoscience الأميركية والمعنية بالعلوم الحيوية، نتائج دراسة الباحثين من المركز القومي لأبحاث المناخ في ولاية كولورادو بالولايات المتحدة حول اكتشافهم أن أشجار الجوز، أو ما يُسمى بـ «عين الجمل»، تُنتج كمية مهمة من مادة شبيهة في التركيب والمفعول بمادة الأسبرين، وذلك في محاولة من تلك الأشجار لتخفيف توتر الإجهاد الذي قد يعصف بها جراء تعرضها لعوامل مناخية شتى.

وقال الباحثون إن اكتشافهم هذا يفتح طريقاً جديداً في الأبحاث حول سلوكيات النباتات نتيجة التأثر السلبي بتلوث نوعية الهواء حولها، ما قد يُمكن الاستفادة منه في رصد أي تغيرات قد تعتري إنتاجية ونمو النباتات، وبالتالي التصرف بطريقة سليمة في حمايتها ورفع مستوى إنتاجها. وعلق العالم توماس كارل، الباحث الرئيس في الدراسة، بالقول: وبطريقة مخالفة لما يصنعه البشر عند تناولهم للأسبرين لخفض حرارة الجسم، تتجه النباتات إلى إنتاج مواد كيميائية شبيهة بالأسبرين لتخفيف تضررها ولرفع مستوى جهاز المناعة والمقاومة فيها. وما تمت ملاحظته هو ارتفاع نسبة وجود هذه المواد الكيميائية في النباتات عند تعرضها للقحط أو لتغيرات غير متوقعة في حرارة الجو. ومنذ سنوات طويلة يعلم الباحثون أن النباتات تُنتج مواد «ميثايل سليسيليت» methyl salicylate ، وهي أحد الأشكال الكيميائية لمادة «أستايل سليسيلك أسيد» acetylsalicylic acid، أو الأسبرين. إلا أن البحث الجديد كان هو الأول في رصد تغير إنتاج النباتات لهذه المادة تفاعلاً مع الظروف المناخية.

وكانت مجلة «ساينس» العلمية، قد نشرت في عدد الخامس من أكتوبر للعام الماضي، نتائج دراسات الباحثين من مؤسسة بوييس ثومبسون لأبحاث النباتات، التابع لجامعة كورنيل بولاية نيويورك الأميركية، حول كشف الباحثين عن المادة الكيميائية التي تُحفّز النشاط في جهاز المناعة لدى النباتات، وبشكل قوي. والمادة التي أشاروا إليها هي «ميثايل سليسيليت».

ولاحظ الباحثون في دراستهم المتعمقة، أن إنتاج هذه المادة يرتفع في عموم الشجرة، وأن ثمة طرقاً للتواصل فيما بين الأجزاء المريضة من الشجرة والأجزاء السليمة منها، وفق ما قاله البروفيسور دانيال كليسيغ، الباحث الرئيس في مشروع الدراسة.

وفي تسعينيات القرن الماضي، توصل فريق البحث المشارك مع البروفيسور كليسيغ إلى أن مادة «سليسيليك أسيد» ومادة «نايتريك أوكسايد» (اوكسيد النتريك) هما مادتان مهمتان في الأنظمة الكيميائية لجهاز مناعة النباتات. وكما هو معلوم، هما أيضاً مادتان مهمتان في عمل الأنظمة الكيميائية الصحية في جسم الإنسان. وعلى سبيل المثال، فإن مادة «نايتريك أوكسايد» هي مادة مهمة وفاعلة في توسيع الشرايين القلبية، وفي توسيع أيضاً شرايين عضو الذكر وتحفيز عملية الانتصاب، وفي العديد من العمليات الحيوية بالجسم.

وبين عامي 2003 و2005، توصل هذا الفريق العلمي، وفق ما تم نشره تباعاً في مجلة «بروسيدنغس أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف سينس»، إلى الأنزيمات التي تعمل ضمن جهاز مناعة النبات على تحويل مادة «ميثايل سليسيليت» الخاملة بيولوجياً إلى مادة «سليسيليك أسيد» النشطة بيولوجياً.

والطريف والملفت للنظر بحق، تلك الدراسة التي تم نشرها بمجلة «جورنال اوف بيولوجيكل كيمستري»، للبحوث الحيوية، في عدد 17 يوليو من عام 1998 ، للباحثين من جامعة ولاية أريزونا الأميركية. وفيها توصل الباحثون إلى أن الأشجار تبكي من الألم «cry in pain» حينما يُصيبها ضرر أو تلف جراء قضم أجزاء منها من قبل الحيوانات التي تقتات عليها! وأن النباتات تُفرز مادة الأسبرين كتفاعل مع هذه الإصابات التي تعتري بنيتها، وذلك لضمان التئام الجروح التي ألمت بها ولتسكين الألم الذي تُعاني منه جراء الجروح والتهتك فيها ولتخفيف التفاعلات الالتهابية فيها.

والواقع أن الطريق العلمي ليس فقط لا يزال طويلاً أمام الباحثين في فهم أمراض جسم الإنسان، وفهم الأدوية المُستخدمة في معالجتها. بل المشوار العلمي لا يزال طويلاً في فهم العلاقة القوية فيما بين أمراض النبات وإنتاج النباتات للمواد الكيميائية المُساهمة في شفائها. ولأننا لا نزال، وسنظل، نعتمد على استخدام المواد الكيميائية المُستخلصة من النباتات في معالجة أمراض الناس، فإن على الطب أن يُوسع من أفق نظرته إلى أمراض النباتات وإلى المركبات الكيميائية الطبية الموجودة فيها، كي يتمكن من الاستفادة العلاجية منها بشكل أفضل <