.. وللقلب أيضا عقل

العلم يؤكد أن للخلايا عقلا وذاكرة مستقلة عن تلك الموجودة بالمخ

TT

العلاقة بين المخ والقلب علاقة ذات اتجاهين ذهاباً وإياباً، وليس كما كنا نعتقد من أنها علاقة ذات اتجاه واحد من المخ إلى القلب فقط وليس العكس. فقد أدخل لأول مرة، في تاريخ الطب تعبير «مخ القلب» Heart Brain، بناء على اكتشاف أن للقلب جهازا عصبيا خاصا به في غاية التعقيد، يتكون من خلايا وموصلات عصبية وبروتينات تعمل بشكل مستقل عن الأعصاب المخية، ويستطيع هذا «المخ القلبي» أن يتعلم ويتذكر ويشعر ويحس ويخاف ويؤمن. وتترجم هذه المعلومات على شكل إشارات عصبية ترسل من القلب إلى المخ، على عكس ما كنا نعتقد أن المخ هو الذي يشعر ويحس ويرسل الأوامر إلى القلب على شكل رسائل عصبية. وتصل هذه الرسائل إلى الجهاز الوجداني في منطقة جذع المخ، وتؤثر فيه من خلال تأثيرها على الأوعية الدموية والغدد الصماء، ثم تنتقل بعد ذلك تلك الإشارات الآتية من القلب إلى المراكز العليا بالمخ التي تستجيب من خلال الإحساس والتقييم واتخاذ القرارات، بناء على الخبرات المعرفية المتاحة. وبالتالي عندما يتم نقل القلب من شخص إلى آخر، يتصل الجهاز العصبي أو مخ القلب المنقول بالجهاز العصبي المركزي والمخ للشخص المتلقي عن طرق الألياف والموصلات العصبية، وتنتقل هذه المعلومات المختزنة عن طريق الطاقة الموجودة بداخل كل خلية من خلايا الجسم، وربما عن طريق أماكن معينة على الشفرة الوراثية الموجودة داخل نواة كل خلية من خلايا الجسم وأعضائه المختلفة.

ولعلني أجد منطقية علمية في هذا التفسير على الرغم من عدم اكتماله. وليس أدل على هذا من أن الاعتقاد السابق كان أن مكان الساعة البيولوجية، مجموعة من الخلايا العصبية، التي تقع في المهاد التحتي وسط المخ، وتعرف بالنواة فوق التصالبية Supra Chiasmatic nucleus، وتمثل مركز التحكم في الإيقاع الزمني اليومي، لأنها تقوم على تنظيم الجداول الزمنية والتنسيق مع بقية الخلايا للوصول إلى ما يجب أن تكون عليه أنشطة الجسم على مدار اليوم. وتوجد هذه النواة فوق نقطة التقاء العصبين البصريين في قاع الجمجمة، حيث إن عمل هذه النواة يرتبط بالضوء، الذي يعمل على خلق التزامن بين الساعة الداخلية ودورات النور والظلام، إلا أننا أخيراً اكتشفنا أن المخ ليس العضو الوحيد في الجسم الذي يحمل جينات هذه الدورة السركادية التي تتفاعل وتنسجم مع النوم والراحة بالليل، والعمل والاستيقاظ بالنهار، وأن هناك أربعة جينات تعطي الأمر بتكوين نفس أنواع البروتينات من أجل التحكم في نظام الساعة البيولوجية. وهذا ما تم اكتشافه في خلايا أخرى من الجسم مثل خلايا الكلى وبعض أعضاء الجسم الأخرى، حيث يتم إفراز بعض هذه البروتينات بالليل عندما يحل الظلام، وتنخفض نسبتها بالنهار أو عند التعرض للضوء، والعكس صحيح بالنسبة للبعض الآخر. بمعنى آخر، فإن جينات الساعة البيولوجية موجودة داخل كل خلية من خلايا أعضاء جسمنا لتنظيم عملها وانسجامها مع دورة الليل والنهار، بعد أن كنا نظن أن المخ فقط هو الذي يقوم بهذه المهمة ويتحكم فيها.

وهناك مثال آخر، يتمثل في خلايا الجهاز المناعي، التي تتمتع بما يسمى بجيش خلايا الذاكرة. وهذه الخلايا الذاكرة، تحتفظ بكل شيء عن تركيب أي كائن غريب يدخل إلى الجسم، وطريقة تدميره والتعامل معه، وتصبح هذه الخلايا، التي تحمل الأجسام المضادة لهذا الكائن الغريب هي خط الدفاع الأول والسريع الذي يهاجمه في حالة ما إذا سولت له نفسه تكرار هذا الهجوم مرة أخرى، وذلك لعدة سنوات أو ربما مدى الحياة. وهذه هي نفس فكرة التطعيم، مما يؤكد أن الذاكرة ليست حكراً على المخ وخلاياه ، وأن للخلايا ذاكرة خاصة بها بخلاف ذاكرة المخ .

نفس الشيء يمكن ان يقال عن القلب الذي كنا ننظر إليه، من الناحية التشريحية والطبية حتى وقت قريب، على أنه مجرد مضخة، وأن الفهم والإدراك والتصديق والانفعال وغيرها، إنما هي من وظائف العقل، الذي نعتقد تشريحياً أن مكانه المخ بكل ما فيه من مراكز وأسرار. لكن الحقيقة ان لخلايا القلب عقلا وذاكرة وفهما، وإذا كان المخ هو الأداة التي نمارس من خلالها التعقل والاختيار بين البدائل الذي ميز به الله الإنسان على سائر الكائنات، فليس معنى ذلك أن المخ هو العقل. فالعقل من خصائص الروح، والمخ هو وسيلة التعبير عن العقل، والأبحاث والاكتشافات الجديدة التي تناولناها في هذا الموضوع تشير إلى أن للخلايا عقلا وذاكرة مستقلة عن تلك الموجودة بالمخ