مرض الوسواس الجسدي الخفي

بعض الناس يصاب بهوس مشكلة غير حقيقية في مظهره

TT

كيف يكون حالك إذا صحوت صباحاً في يوم من الأيام ونظرت إلى المرآة مكسورة، بحيث تبدو، كما في الأفلام، ذات زوايا ومركز مشتت، تنظر فيها فترى وجهك مشوها تماما، وكأنه ليس وجهك؟. تصور ماذا سيكون عليه أمرك إذا لم تكن المرآة مكسورة، ومع ذلك ترى فيها وجهك مشوها ومضطربا، بملامح غريبة عليك. إذا كان هذا حالك، فأنت قد تكون مصابا بذلك المرض الخفي الذي يعرف بـ «اضطراب تشوه صورة الجسد» أو «اضطرابات وسواسية» تتعلق بالمظهر، وعوض ان تراه عاديا أو جميلا تراه قبيحا ومنفرا. اساس المشكلة نفسي أولا وأخيرا، لكنه يظهر على الجسد ليعذب الانسان وفي بعض الأحيان قد يصل الأمر إلى محاولته الانتحار. المصابون بهذا الوسواس يشعرون في العادة بأنهم أقرب إلى القبح منهم إلى الجمال، وأن مظهرهم غير لطيف، بل وربما كان مفزعا. فعندما ينظر الشخص إلى وجهه في المرآة مثلا، يرى أن أنفه كبير بشكل لا يتصور، أو تقتنع المرأة أن صدرها ممسوح تماما، أو أن بشرتها مليئة بالبقع والنمش، أو أن شعرها خفيف وأنها على وشك ان تصاب بالصلع. بعبارة اخرى، فإن أي جزء أو عضو من الجسم يصبح بين يوم وليلة المحور الذي يركز عليه المريض، ويتحول إلى هم يؤرقه. ومهما حاول المقربون إقناعه بأن ما يراه أو يعتقده لا أساس له من الصحة، وأن مظهره جذاب، إلا ان كل التطمينات لا تنفع ولا تزيل الهم أو تمحو الوسواس المترسخ في عقله. وما يزيد الأمر سوءا أن المعاني يتألم أكثر لأن الآخرين لا يحسون به أو يفهمونه.

وتجدر الإشارة إلى ان هذه الحالة انتشرت أخيرا في المنطقة العربية، في الفئات العمرية الشبابية تحديدا، بغض النظر عن الجنس، الأمر الذي يدفعهم إلى طلب معونة جراحي التجميل، بحثاً عن الأمان المفقود والشكل المطلوب. وما يؤجج رغبتهم في تغيير شكلهم ما يرونه على وسائل الإعلام من صور في منتهى الجمال.

وبينت إحدى الدراسات أن العديد من الناس غير راضين عن نواح معينة في مظهرهم، فتقول المرأة مثلا: «أنا لا أبدو جذابة بالقدر الكافي» ويقول الرجل «أنا لست أنيقا أو رشيقا». صحيح أنه ليس هناك أحد راض عن شكله تماما، فذات الشعر الأجعد تريد شعرا مسترسلا وناعما، والأوروبية الشقراء تريد شعرا مجعدا وبشرة سمراء، والطرفان يدفعان بسخاء حتى يتغير لون الشعر وحتى يتزين الرأس، لكن لحد هنا فإن الأمر طبيعي ولا يصل إلى حالة الوسواس. فالإنسان العادي تنتابه بعض الأعراض والشكوك، لكنها لا تطغى على حياته وعقله، مثل هؤلاء المرضى الذين يصابون بهوس لا يفارقهم ليل نهار. وللأسف فانهم محاصرون، نفسيا، ليس لهم خيار. ولا يصنف البعض هذه الحالة كمرض، لأن المصاب يمارس حياته العملية بشكل عادي في الظاهر، على الرغم من قلقه واضطرابه، ولا يشي حاله بأنه تعيس أو أنه يعيش اضطرابات داخلية. ماري، بنت في الثانية والعشرين من عمرها كانت تحس أن أنفها ضخم، وان شفتيها معوجتان، وأن فكها كبير، وردفيها مسطحان، وثدييها صغيران للغاية، مما دفعها لترك المدرسة. ولم تتمكن من الحصول على عمل، ولا ربط علاقة عاطفية أو إنسانية مع أحد، حيث توقفت عن لقاء صديقاتها لأن شعورها بالقبح وبأن شكلها مخيف طغى عليها وعلى تفكيرها. أغلقت على نفسها الأبواب وحبست نفسها لمدة خمس سنوات، وتم إنقاذها بأعجوبة من محاولة انتحار.

المثير في هذا الموضوع، أن المصاب به يركز على النواقص التي لا يراها الآخرون، والحكاية السابقة توضح لنا أن النمش والشعر الخفيف والثديين الصغيرين ليسا بتلك الأهمية، لكن المصاب بداء الشكل والمظهر يرى أصغر الأمور وأتفهها ضخمة كبيرة عصيبة على الحل. قلق هؤلاء المضطربين يبدو غريبا بالنسبة للناس العاديين الذين لا يفهمون لماذا هم منزعجون من شعرهم أو من وجوههم مثلا، أو لماذا يتحدثون عن تجاعيد محفورة في الوجه وهي ليست موجودة اصلا، ولو على شكل خطوط خفيفة؟. لكن في عيون المصاب فهي واقع يعيشه ويراه كلما تطلع في المرآة. وليس ببعيد أن يضطر الأهل لمجاراته ودفع مبالغ كبيرة لإجراء جراحات تجميل غير ضرورية. وأحيانا لا يدرك المريض ولا يدرك أحباؤه أين تكمن المشكلة، ويعتقدون أن الأمر مجرد اكتئاب وانعزال وخوف من مواجهة الآخرين.

وحتى إذا صارح المريض أو المريضة أحد الأقرباء، فإنه يشعر بالحرج، لأن هذا الاضطراب الجسدي غير شائع وغير معروف، ومن الصعب على الآخر فهمه. لهذا من المهم التعريف بهذه الحالة حتى تخرج إلى النور، ويفهمها المصاب والمحيطون به. وعوض ان يعاني منه في صمت وخجل، يمكن التعامل معها بغرض تجاوزها والخروج من دوامتها. وأهم سبل العلاج يعتمد على البوح للطبيب والاعتراف بالحالة، مع العلم انه رغم وجود الاضطراب والاعتراف به من قبل الأطباء، إلا أن تشخيصه ليس سهلا ويحتاج إلى صبر وجهد من قبل المختصي <