وجود جرثومة المعدة... ليس بالضرورة شيء ضار

مع وجود سلالات شرسة وأخرى مسالمة

TT

* العودة إلى "الدفاتر القديمة"، والمعلومات المدونة فيها، ربما تكون مفيدةٌ في بعض الأحيان. ولكن في جانب علم الطب، ربما تكون العودة إلى قراءة ما دونه السابقون من ملاحظات علمية، مفيدة للغاية. ولذا فإن ما سبق للعلماء أن تحدثوا عنه من ملاحظات حول الأمراض أو مسبباتها أو مضاعفاتها، يرجع الباحثون إليه في لحظات حرجة من البحث العلمي لإعطاء الجهود العلمية دفعة إلى الأمام.

دعونا نُراجع قصة "جرثومة المعدة"، أو بكتيريا "هيليكوبكتر"، وعلاقتها المثيرة للدهشة بالتهابات المعدة والمريء والإثنا عشر، والقروح الناشئة في أي منها.

بداية، تُعد أمراض التهابات وقروح هذه الأجزاء العلوية من الجهاز الهضمي، من أكثر الأمراض شيوعاً بين عامة البشر. وتطال الإصابات بها الأطفال والشباب وكبار السن، من الجنسين. وتزداد الشكوى منها في أوقات مختلفة من عمر الإنسان. وتتحدث الدراسات الطبية عن آثار مزعجة لها على المدى القريب والمتوسط والبعيد، لتصل المخاوف الطبية إلى حد الحديث عن مضاعفات من نوعية النزيف والأورام وضيق المجرى الذي يمر الطعام من خلاله وعسر الهضم وسوء التغذية وغيرها. وهي ما تفرض البحث عن سببها وعن أفضل وسيلة لمعالجتها و "قطع دابر" أضرارها.

ولعشرات السنين، ظل الباحثون والأطباء يُرددون كلمات "موّال" واحد، وبألحان مختلفة، عند حديثهم عن قرحة والتهابات المعدة أو المريء أو الإثنا عشر. وذلك "الموّال" كان دائما يقول: التوتر النفسي، وتناول البهارات الحارة والحارقة، هما من الأسباب الرئيسية لنشوء مشاكل تلك الأجزاء العلوية من الجهاز الهضمي.

ولأن "الموّال" الرديء لا يُطرب ولا يُعطي أي بهجة للروح والنفس، ظلت معالجة تلك القروح والالتهابات تتخبط، وظل الأطباء "حطّاب ليل" في ما يُقدمونه للمرضى من معالجات لتلك الحالات.

الباحثون الاستراليون، في أقصى شرق العالم كانوا أكثر هدوءاً في البحث عن أسباب المشكلة، وقاموا لذلك بمراجعة ما سبق للباحثين الطبيين أن دونوه من الملاحظات حول هذه المشكلة. ومما اعتنوا به تلك الملاحظة العابرة التي ذكرها العلماء الألمان في عام 1875، من أن ثمة بكتيريا حلزونية الشكل تُوجد لدى بعض الناس في أنسجة بطانة المعدة. وهي ملاحظة تجاهل أهميتها الباحثون لأكثر من مائة عام.

وتوصل الباحثون الاستراليون في عام 1979 إلى عزل تلك البكتيريا الحلزونية، التي تحدث الألمان عنها قديماً. وتمكنوا من زراعتها، وتنمية تكاثرها، في أطباق زراعة البكتيريا في المختبرات. ثم قاموا بدراستها من جوانب تفصيلة شتى. وأعلنوا ما كان أشبه بـ "الخرافة" التي لا تُصدق، بأن تلك البكتيريا هي السبب الأساسي في إصابات الملايين بالتهابات وقروح المعدة والإثنا عشر والمريء. وأطلقوا عليها في عام 1989 اسم "هيليكوبكتر بيلوري" أو ما يُمكن ترجمته إلى "الجرثومة الحلزونية للمعدة". وهي بكتيريا لها شكل حلزوني، شبيه بمسمار البرغي أو البريمة، أو "هيليكو" باللغة اللاتينية، ولها عدة ذيول خيطية تستخدمها في الحركة والتشبث بالأماكن التي تلتصق بها أو توجد فيها. و بيلوري" كلمة تعني "بوابة" في إشارة إلى بوابة مخرج المعدة، أي فيما بين المعدة والإثنا عشر.

والميزة الأهم لتلك النوعية من البكتيريا، هي في قدرتها "الخارقة"، مقارنة ببقية أنواع البكتيريا، على الصمود والبقاء في وسط البيئة الشديدة الحموضة في المعدة. وقدرتها على التغلغل في طبقات بطانة المعدة، والبقاء فيها حية، لتعبث بسلامة تلك الأنسجة بأعماق مختلفة، ما يُؤدي إلى ظهور القروح والالتهابات.

ولكن القصة لا تنتهي هنا، ذلك أنه كما لاحظ الباحثون الطبيون تلك العلاقة الوثيقة بين وجود جرثومة المعدة وحصول القروح والالتهابات فيها، لاحظوا أن نسبة عالية من الناس "تستضيف" و "بكل رحابة صدر" تلك البكتيريا دون أن تتسبب لهم بأي مشاكل صحية في المعدة أو غيرها.

ومن جديد توجه البحث عن حلّ تلك النقطة "الإشكالية". وتبين أن هناك "سلالات" متنوعة من تلك البكتيريا المستوطنة للمعدة وأنسجة بطانتها. وأن من تلك السلالات ما يتسبب بالقروح والالتهابات، ومنها من يعيش بسلام ودون إزعاج لصحة الشخص "المستضيف " لها. وعلى سبيل المثال، تُوجد تلك الجرثومة في معدة حوالي 50% من سكان الولايات المتحدة، وحوالي 60% من سكان السعودية، وحوالي 80 إلى 90% من سكان المناطق النامية في القارة الأفريقية. والأهم أنها تتواجد في معدة كبار السن أكثر من الأطفال والشباب.

ومع تقدم وسائل الفحص عن وجود تلك البكتيريا في معدة إنسان ما، إلى درجة توفر طريقة تستخدم هواء زفير الإنسان لمعرفة هذا الأمر، ظهر سؤال مهم: متى يُجرى للمرء فحص مدى وجود جرثومة المعدة لديه؟

ولو أن شخصاً ما أُجرى له ذلك الفحص، استجابة للدعايات الصحفية الطبية "الفجة" لبعض المراكز الطبية التجارية، وثبت أن لديه تلك الجرثومة، فهل على الطبيب معالجته أم لا؟

وقد تكون إجابة السؤال الأول واضحة، وهي أن الفحص يُجرى لمن يشكو من أعراض في المعدة لعسر الهضم أو الألم أو ثبت بمنظار المعدة وجود تغيرات في بطانة المعدة، من نوع الالتهابات أو القروح. ولكن تظل إجابة السؤال الثاني حائرة، في حال عدم وجود أي أعراض لدى الشخص بالأصل، بين معالجة الجرثومة التي قد تكون من السلالات المسالمة، وبين تركها دونما معالجة <

* استشاري باطنية وقلب مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض [email protected]